الديمقراطية ليست برلمان … بقلم محمد حبيب المحميد
المجتمع المدني هو صانع الرأي في الدول المؤسساتية ، إما تخصصًا أو تداولًا للشأن العام ، والحديث عنه في تلك الدول هو حديث عن مجتمع مبادر ضمن نظام ديمقراطي ، يحمل قيم الديمقراطية كما يمارس آلياتها في العمل ، وأحد أهم هذه القيم هي ربط صناع الرأي بصناع القرار لترشيد نظام الحكم وقرارات الدولة.
التفاعل بين المجتمع المدني ومؤسسات القرار لابد أن يكون من خلال تحفيز ثقافة المبادرة في مواجهة الواقع ، وتشخيصه وعلاج ما يحتاج علاج ، فالإرتجالية بالقرار تؤدي إلى تهميش دور المجتمع المدني التخصصي ، الذي يقوم على أساس المنهج العلمي في التشخيص والعلاج ورسم السياسات ، بل وبناء الحضارات والموقعية الإستراتيجية لأمة ما في إدارة العالم .
أما من ناحية هيئات المجتمع المدني التي تتداول الشأن العام سياسيًا لا تخصصًا نورد كلمة لأمير المؤمنين (عليه السلام) في عهده الشريف لمالك الأشتر حين ولاه مصر “وأكثر من مدارسة العلماء ، ومناقشة الحكماء” والقضية أخطر هنا مما يصطلح عليه بإستئناس الآراء ، فالإمام هنا ينشد التفاعل بين صناع الرأي وصناع القرار ، من خلال ارشاده للحاكم في التعاطي مع أهل العلم والحكمة ، لتثبيت أمر البلاد كما في تتمة الحديث .
وعليه فإن المناقشة لابد أن تكون مثمرة على شكل برامج عملية ، ينتجها صناع الرأي وينفذها صناع القرار ، وهذه العملية ترتبط بقيمة أخرى من قيم الديمقراطية وهي التعددية ، والتي تحتاج إلى تنشئة اجتماعية صالحة في الأسرة من خلال منح الثقة لأفرادها في ابداء الرأي وحرية الممارسات الرشيدة ، يكون فيها رب الأسرة موجهًا وضابطًا للسلوك والرأي من حيث أنه أهل الحكمة والخبرة .
وقد تم الحديث في مقال سابق تحت عنوان “مناهج تبني الوطن” حول أهمية دور العملية التربوية التعليمية في غرس مبادئ التعددية من خلال مناهجها ، وكذلك سبق الحديث في مقال أسبق حول طرائق التعليم الحديثة التي تساهم في تنمية التفكير النقدي وبالتالي الإبداع في توظيف الإختلاف لصالح الدولة والمجتمع من خلال تعاون المشتركات وتنافس الإختلافات ، ودور المعلم في ذلك .
أما دور الدولة يكمن في التفاعل مع صناع الرأي من هيئات المجتمع المدني ، فلا ينبغي القبول بصورية المجتمع المدني ، دون ترجمة أعماله إلى واقع معاش له تأثيره على الحياة اليومية ، ليلتمس أفراد هذا المجتمع أهمية صناع الرأي ودورهم في ترشيد القرار ، وطرح الحلول العلمية والعملية كسياسيات عامة على شاكلة خطط تنفيذية .
ولابد من التنويه على تأثير العلاقات البينية للمجتمع المدني على دوره المبادر ، فالعلاقة ينبغي أن تُبنى على التكامل في الأدوار ، والتنافس لصالح الهدف المشترك ، فالإنحراف في هذه العلاقات البينية يسلب المجتمع المدني دوره المبادر ، ويحيله إلى مستهلك يرد الفعل هنا وهناك ، ويشغل أفراده بالتحزب والتعصب المناهض لقيمة التعددية ، وهي قيمة أساس للمجتمع المدني المبادر .
لكل هيئة من هيئات المجتمع المدني أهداف استراتيجية ومرحلية وبرامج عمل ، ينظمها القانون الرشيد ، الذي يستوعب الإختلافات ويجندها لخدمة الهدف المشترك ، في المبادرة لصناعة الرأي الرشيد والقرار الرشيد ، فنظم الأمور ليست حاجة ترفية ، بل هي ما ينتشل المجتمع المدني من الحالة العبثية إلى الهدفية التي تمكنه من ممارسة دوره الصحيح ، فالديمقراطية ليست برلمان ، بل هي المجتمع المدني بكل تفاعلاته ومن رشحاته العمل البرلماني المنظم .