الطبيب والأناكوندا العملاقة … بقلم د.يونان وليم
لازالت ذكريات إقامتى فى ذلك الريف النائى الذى كنت أعمل فيه منذ عدة سنوات عالقة قى ذهنى لا اقدر على نسيانها مهما بذلت من جهد..تطاردنى كالحب القديم الذى يعشش فى الوجدان ويسكن فى الأعماق ثم يخرج إلى السطح فجأة دون سابق ميعاد فى أوقات غير متوقعة ولأسباب غير معروفة أو مفهومة..تظهر فجأة على شاشة العقل نتيجة إستثارة قد تبدو بسيطة لكنها دون قصدٍ قد أدخلت الرقم السرى لمجلد يحوى داخله ملفات قديمة حفظها العقل منذ زمن بعيد وظن إنه ألقى بمفتاحها فى بحر عميق..
فالذكريات كالكائنات التى تعيش فى أعماق المحيط التى يختلف شكلها وتأثير ظهورها فربما تظهر كعروس البحر الجميلة الأسطورية التى يتهافت الجميع لرؤيتها وربما تخرج على شكل وحوش مفزعة تشبه “كابرو سوروس” لتلتهم الحاضر كما إلتهمت الماضى وقد تقضم أجزاءا من المستقبل أيضا إن لم تلتهمه بأكمله..
كلٍ حسب ذكرياته وما لها من أثار على نفسه وقلبه بالسلب أو بالإيجاب.. ذكريات مفرحة عند إجترارها تبعث السعادة وذكريات مؤلمة تطبع أثرا عميقا فى النفس..ربما نتجت عن جرح قديم لم يكتمل إلتئامه وقتها وأغلق قبل أن يشفى أو مخاوف سيطرت بمخالبها عليه فأدمته بعنف وتركته بين حى وميت يلعق جراحه ويجتر أحزانه..
_وتلك بعض من الذكريات مزيج بين الحزن والسعادة وبين الخوف والسخرية من الواقع..ففى احد ليالى الشتاء الباردة الطويلة نحو الساعة الثالثة او الرابعة صباحا _ولا أدرى لماذا تأتى كل الكوارث والمصائب دائما فى ذلك التوقيت_سمعت صوت طرق متتالٍ على باب السكن الذى أقيم فيه بالقرب من المركز الصحى( حيث مقر عملى) .. فشعرت وأنا فى عمق نومى كأن أحدهم قد جرنى من رجلىّ فأدركت بالطبع من أسلوب الطرق أن هناك حالة طارئة وأن ليلة طويلة تنتظرنى بالخارج ..فأسرعت وفتحت الباب فوجدت رجلاً بسيطاً يحمل طفلاً صغيرا على يديه يبلغ من العمر قرابة الخمس او الست سنوات يتحدث بلهجة ريفية إعتدت على سماعها من اهل القرية البسطاء حتى اوشكت انا نفسى على التحدث بها مع أهلى وأصحابى ومن حولى..بدت على الطفل ملامح المرض من إعياء وتعرق وإحمرار بالوجه..فأخبرت الرجل أن ينتظرنى بالعيادة حتى أقوم بتغيير ملابسى فى أقل من خمسة دقائق إن شاءالله وسألحق به فوراً..
سبقنى الرجل إلى العيادة وقمت بتغيير ملابسى بسرعة وأغلقت باب سكنى وتوجهت نحو العيادة التى يفصلها عن سكنى مسافة لا تزيد عن مائة وخمسين متراً ؛ عبر طريق غير ممهد يشبه الكوبرى يصل بين طريقين تكسوه زروع صغيرة وأعشاب وبعض الشجيرات الصغيرة من كلا الجانبين؛ إلى أن تظهر على اليسار مساحات شاسعة من مزوعات قصب السكر العالية والتى يصل إرتفاعها قرابة الثلاثة أمتار أو اكثر متراصة بجانب بعضها البعض بشكل جميل جذاب نهاراً ؛ مخيف ومفزع(بعض الشئ) ليلاً.. وتمتد هذه المساحة الكبيرة جدا من محصول قصب السكر حتى سفح الجبل البعيد الذى تظهر قمته كسحابة ضبابية توشك على الإمطار ..
ويظهر على اليمين أخيرا سور قديم يمتد لمسافة ليست بعيدة ينتهى ببوابة حديدية هى مدخل المركز الطبى ..
سرت بسرعة وسط الظلام الدامس أتحسس رؤيتى عبر كشاف صغير فى يدى؛موازيا لهذا السور الذى كانت تكسو جوانبه مجموعة من الشجيرات الصغيرة المتراصة بجانب بعضها البعض لا يفصل الواحدة عن الأخرى اكثر من ذراعين تقريباً ..
..وإذ فجأة ..سمعت صوتا داخل تلك الشجيرات وآثار حركة يجعل أغصان تلك الشجيرات تهتز بقوة الواحدة تلو الأخرى ويستمر فى الحراك ..لم أكترث فى البداية ولم أعر حاسة سمعى إهتمام يذكر…لكن جذبنى الفضول لمعرفة ماهية هذا الشئ الذى يتحرك داخل الشجيرات ويسير بمحاذاتى..هل هو قط مشرد أم كلب برى..أرسل عقلى إشارات إلى حاسة أخرى أكثر إفادة لهذا الموقف من مجرد السمع وهى حاسة البصر فإقتربت أكثر إلى مصدر الصوت ودفعت إطار نظارتى الطبية التى أرتديها إلى وجهى لتلتصق عدساتها بجفونى كمحاولة لا إرادية لتزويد عيونى برؤية أوضح لأرى تفاصيل أكثر فى مشهد يخيم عليه الظلام فيطمس أغلب تفاصيله..إقتربت أكثر حتى أصبحت رأسى فوق أكثر شجيرة تصدر صوتاً ووجهت كشافى الصغيرة نحوها..وكانت المفاجاة التى جمدت الدم فى عروقتى ..
إذا بثعبان ضخم جدا يرفع رأسه ويصبح فى مواجهتى مباشرةً..لا أبالغ إذا قلت إنه إذا إلتقط لنا أحداً صورة فوتوغرافية فى هذه اللحظة..لظن البعض(من ذوى النوايا الغير حسنة) إننا فى مشهد غرامى..
لقد إقتربت منه لدرجة مخيفة لا يفصلنى عنه سوى شبرٍ واحد..
وكانت المفاجأة التالية..إذ شعرت لا إرادياً بقوة جذبنى للخلف وكأننى قفزت فى الهواء لمتر أو أكثر كمن يلعب أكروباتٍ فى السيرك مما جعلنى أبتعد عن الثعبان لمسافة كبيرة تتيح لى فرصة الهرب قبل أن يدرك الثعبان ما حدث ويبدأ فى ملاحقتى..
تذكرت ما قرأته فى أحد الكتب الصينية عن أن هناك قوى روحية كامنة داخل نفس كل منا تخرج فجأة عند الشعور بالخطر فتدفعه للمواجهة وإحتمال الألم..بالطبع هو تأثير الأدرينالين لكننا نفضل دائما ربط الواقع بأمور روحية غامضة أو ميتافيزيقية تجعل الحياة المملة أكثر حيوية ومغامرة..
_أطلقت ساقى للريح وجريت بسرعة كالقطار إلى الأمام دون توقف دون وجهة معينة ولكن لا يهم أين أذهب.. فكما يقول هتلر “إن لم تكن تعلم أين تذهب ؛ فكل الطرق تفى بالغرض” _نعم فهناك ثلاثة إتجاهات أخرى تبعدنى عن هذا الوحش أياً منها سيفى بالغرض..وكأننى أنفذ حرفياً كلمات الفنان الراحل محمد فوزى فى أغنيته “طير بينا يا قلبى وما تقولليش رايحين على فين”..
رحت أجرى بسرعة دون توقف ..وأثناء ذلك دار هذا المشهد فى رأسى وإكتمل فى ثوانٍ..حتى شعرت بالخوف الرهيب يسرى فى جسدى الذى اصبح باردا فجأة كلوح الثلج وقطرات عرق باردة تتصبب من جبينى..
إنها بالتأكيد أفعى الأناكوندا التى شاهدتها فى سلسلة افلام “الاناكوندا القاتلة” والتى كنت بعد مشاهدة كل جزء من هذه الأجزاء المرعبة أغلق شرفة غرفتى جيدا قبل النوم خشيةأن تتسلق عبر الشجرة المقابلة فتدخل من الشباك ثم إلى الداخل..
_فشعرت حينها بأننى سأصبح وجبتها القادمة لا محالة وأحسست بان لحظة الإبتلاع وشيكة ورحت أتخيل كيف ستهجم عليا فى مباغتة سريعة وتلتف بجسمها العضلى الإنسيابى بضع لفات حولى فتلتصق ذراعى بجسدى وتبدا عملية العصر والإختناق وصوت طقطقة العظام المنكسرة..ثم تنتظر حتى ارفع رأسى نحوها فى شهيقى الأخير بينما هى تعلونى بحوالى متر او اكثر تنظر بعينيها الحمراويتين إلى ملامح وجهى منتظرة ان ترى الذعر والإستسلام الذى يؤكد هزيمة الفريسة بالطبع ؛ فتعطيها إشارة البدء لمرحلة الإبتلاع..عندها ستفتح فاها الواسع فتبتلع الرأس ثم الاكتاف وتستمر بحركة لولبية دودية فيتحرك فكاها نحو باقى الجسد حتى يصلا إلى أقدامى ومنها إلى حذائى البنى الفاخر الذى إشتريته منذ عدة ايام ..
وبينما أمارس رياضة التفكير أثناء الهرب ؛ لمحت بطرف عينىٌ شخصا ملفوفا ببطانية سوداء بطريقة تشبه المومياوات المصرية المحنطة
_يبدو ميتاً أكثر من كونه نائماً_ لكن ينقصه فقط تابوت ينام داخله ممسكا فى يده اليمنى بمفتاح الحياة يضعه على صدره لتكتمل الصورة ..
إنه “عم حسن” الحارس..توقفت فجأة ودون إنذار كمن يقوم بشد كابح(فرامل) السيارة بيده ويضغط بقدمة بقوة..فيصبح للتوقف المفاجئ صوتاً مزعجاً للغاية..
ورحت أقبض على أحد أطراف هذه الجثة بكلتا يدىّ لأوقظة بسرعة فإذ بى ممسكا بقدميه ؛ فألقيتهما بعيدا وتوجهت نحو الطرف الآخر لعلى أجد رأسه المنشود لأتحدث معه بسرعة وأخبره بوصيتى الأخيرة قبل أن يتوقف قلبى من سرعة الخفقان..
رفع عم حسن رأسة وقام منتصبا ملقيا عنه بطانيته كمن نفض عنه تراب القبر..مفزوعا مرتبكا.. يصرخ وهو فى اللاوعى… مَن ..أين..لماذا…؟؟؟
فلم أكن أعرف من منا عليه تهدئة الآخر !!
أنا ..انا..يا عم حسن ..أجبته..انا الطبيب الذى يسكن بالجوار..لكن دعنا من كل هذا ..فهناك أناكوندا ضخمة جدا كادت ان تقتلنى منذ لحظات..إنها هنا بجوار السور..
فرك عم حسن عينيه بهدوء وهو يتثائب ويفتح فاه على مصراعيه كتلك الأناكوندا ..ثم قال لى ..لا تقلق يا دكتور فالمكان هنا يعج بالثعابين بكل أنواعها وهى تعيش معنا فى سلام طالما انك لا تعترض طريقها او تحاول إيذائها ..لا تقلق ..
حسنا يا عم حسن..لن أقلق لا الآن ولا بعد اليوم..فالمكان يعج بالثعابين بكل أنواعها وكل ما علىّ فعله هو مراعاة خصوصية كل ثعبان أثناء مرورى بجواره..
صرخت بقوة فى وجهه وقلت له..يوجد ثعبان ضخم جدا كاد أن يبتلعنى الآن وتتحدث بهذه البرود..
إهدأ يا دكتور سوف اذهب معك لأراه..فقلت له بكل حزم ..تذهب انت وحدك لتراه ..لا تتكلم بصيغة الجمع
…حسناً سأذهب ..
ذهب عم حسن الشجاع قاهر الثعابين بزهو وهو مختال بفخر نحو الثعبان بثقة الخبير ليستكشف الأمر…غاب لعدة دقائق يفتش بين الشجيرات بعصاه الخشبية.. ثم عاد يجر أذيال الخيبة ؛وبدت عليه ملامح الفشل والخوف الذى يحاول أن يخفيه عنى لكن يصعب أحيانا إخفاء نوعين من المشاعر التى سرعان ما تفضح صاحبها وهى الخوف والحقد..
هل وجدت الأناكوندا يا عم حسن..سألته .. قال لى “..يا دكتور..إنها حية ضخمة فعلا وتبدو غاضبة.. إنها ثعبان من نوع الحيات السامة ..ليست اناكورا كما تطلق عليها…
أحقا يا عم حسن(نظرت اليه بسعادة) انها ليست اناكورا..عفوا .. اناكوندا.. ؟!
لقد تلعثمت من هول الفرحة..
ثم ما لبثت أن إختفت ملامح الفرحة من على وجهى وانا أبلع ريقى( متسائلا) ..ولكن ماذا تقصد ب حية كبيرة سامة؟؟!…
إنها نوع من الثعابين تنتشر بكثرة هنا بمختلف اشكالها وأحجامها
لاتخف يا دكتور ..سوف أصطادها وأقتلها لأجلك؛ لكن صدقنى يستحيل قتلها فى هذا الظلام وإلا هاجمتنا وفتكت بكل من يقترب منها..فلننتظر حتى تشرق الشمس ويظهر نور الصباح فنراها بوضوح..إذهب الآن لتنام يا دكتور واسترح حتى الصباح..
فأخبرته إنه علىّ الذهاب الآن للكشف فى العيادة على طفل مريض..فقال لى سأذهب معك حتى باب العيادة وسأنتظرك حتى تنتهى من الكشف ثم أسير معك حتى باب السكن ..
وتم بالفعل ما وعدنى به هذا الحارس الشجاع ..ووجدت نفسى داخل سكنى والهواجس عن هذه الثعابين تملأ رأسى..
لكن كيف يتحدث عن هذه المخلوقات المرعبة بهذا البرود ويقول ببساطة هكذا انها تملأ المكان حولنا كما لو كانت طيور او أرانب يربيها فى حظيرتة..اللعنة على هؤلاء البشر..واللعنة بالأكثر على من ألقانى هنا فى هذه الحقبة التى يبدو إنها قبل التاريخ..أعتقد إنى ساواجه غدا تنيناً مجنحاً ينفث النيران.. أو تيرانوصور ذو أسنان حادة ينتظرنى عند باب العيادة او بالقرب من مزروعات القصب ..وربما أيضاً يخطفنى بمخلبين أركيوبتركس طائر.. ليأكلنى فى عشه هو وصغاره الأركيوبتركسيين .. ربما سأشعر ساعتها إنى قد أديت رسالة فى الحياة أسمى من رسالة الطب وهى إطعام فراخ الاركيوبتركس الصغيرة الجائعة …
ياإلهى ..يبدو أن نهايتى ستكون فى هذا المكان قبل أن أعود إلى ديارى ..إما بالموت على أيدى لصوص وقتلة فى الغابة المجاورة…أو داخل معدة أناكوندا شريرة كتلك التى رأيتها منذ قليل..
دفعنى الخوف أن أفتش كل شبر داخل إستراحتى ذات البابين الخلفى والأمامى والتى تسمح من خلال أعقابها بدخول كل انواع الثعابين التى تحدث عنها عم حسن..فرحت أسُد الثغرات والشرفات جيدا بأخشاب ومسامير لأقلل من إحتمالية دخول هذه الكائنات مستقبلا لا أكثر..لكن ماذا لو كان قد دخل أحدها بالفعل وهو يعيش معى الآن دون أن أدرى ؟!! ..يا إلهى ..سوف أمشط المكان بدقة اكثر..لكن يأتى هنا سؤال أكثر خطورة..ماذا سيحدث لو بعدما فتشت المكان فوجدته فجأة أمامى وجها لوجه؟!..كيف سأبرر له تطفلى وإقتحامى لخلوته دون إستئذان ربما كان يأخذ قيلولة أو يقضى وقتا سعيدا مع زوجته فى شهر عسل !! ..هل سأقول له ..”آسف على المقاطعة أعذرنى على تطفلى وإعتبر المنزل منزلك”..وهل سيغفر لى تلك الفعلة ويعتبرها حسن نية غير مقصودة فيقبل اعتذارى ببساطة هكذا ويتركنى لحال سبيلى.!! أم سيتستشيط غضبا وينفث السم فى وجهى؟!!
_لابد من الهرب..نعم بكل تأكيد ..الهرب من هذا المكان هو الحل الأمثل ..
ظللت حتى الصباح فى قلق دون أن أنام أحارب هواجس مفزعة فى رأسى ؛ حتى ثقلت أجفانى وغلبنى النعاس ورحت فى نوم عميق حتى دقت ساعة المنبه المزعجة فإستيقظت بصعوبة شديدة وشربت فنجان من القهوة وبدلت ملابسى ثم فتحت باب السكن بحذر وببطئ بضع سنتيميترات..فأخرجت رأسى أولاً من الباب كمن يستكشف الخطر ونظرت يميناً ويساراً ثم إلى الأعتاب فإطمئن قلبى ثم سرت متوجها نحو العيادة ..لأجد جمعا من البشر بالقرب من ناحية السور ..فإقتربت لأجد منظرا مخيفا..إنه ثعبان الأمس ..الأناكوندا..أقصد الحية الكبيرة..قام “عم حسن” قاهر الثعابين بإصطيادها وقتلها وألقى بها فى طريقى لأشاهدها فى الصباح قبل أن يذهب إلى بيته بعد إنتهاء نوبة حراسته بالأمس..
يا إلهى ..إنها ضخمة جدا وطولها يتعدى المترين ونصف ذات رأس مبطط عريض..شكرت الله كثيرا الذى أنقذنى من موت محقق جراء سم يفتك بشخص بالغ إثر عضة من أنيابها..
نعم إنى أؤمن بمبدأ “ما لا يقتلنى يجعلنى اقوى ”
ولكن هل ستمر هذه الحادثة مرور الكرام دون أى مشاكل فى المستقبل..أم سأواجه يوما “وليفة” هذا الثعبان القتيل تتدلى من السقف نحوى فى مشهد
“عاد لينتقم” …!!!