الكويت!..صراع ومصالحة …بقلم محمد حبيب المحميد
الصراع هو ناموس يعيشه الإنسان بكل وجوده، إذ الإنسان كائن مركب بغاية الدقة والتعقيد، ومقتضى هذا التركيب نشوء صراع بين مكوناته، وهي حالة صحية في واقع الإنسان، تجعله متحركًا نحو تكامله إن أحسن إدارته، والمائز الحقيقي أو ما يسمى بلغة المناطقة بالفصل، بين الإنسان وغيره من الكائنات، هو سعيه إلى التكامل، لا فقط وجود القوى العقلية فيه، والتي بلاشك يتشارك فيها مع كائنات أخرى، وإن بنسب متفاوتة، ووقود هذا التكامل الإنساني هو الصراع، والناظم له هو العقل الذي يقود عملية التنظيم وتوزيع الأدوار بين مكونات التركيب البشري، أما في حال اختلت الموازين بحيث لا ناظم لها، أو بعبارة أدق حين لا يمسك العقل زمام الأمور، سيفشل الإنسان في عملية التكامل التي هي غاية وجوده، ويفقد حينها منطقيًا المائز بينه وبين غيره من الكائنات، فلا يعود سوى كائن بيلوجي مختلف شكلًا عن غيره من الكائنات الأخرى، وفي هذه الحالة يحتاج الإنسان إلى عملية مصالحة تعود به إلى إنسانيته ورشده، مصالحة لا تلغي أي من مكوناته وأدوارها التنافسية أو تنهي حالة صراع إيجابي هي وقود تكامله، بل هي مصالحة بين المكونات عبر توزيع المهام وإدارة الصراع لصالح التكامل المنشود.
المصالحة إذًا هي مرحلة مؤقته ضرورية تؤسس لمشروع استراتيجي كامل وهو التكامل، وكما يعيش الإنسان حالة الصراع في نفسه، يعيشها في مجتمعه، وإن كان المنظرين عادة لا يحبذون إطلاق كلمة الصراع لما لها من مدلولات سلبية، ويستعيضون عنها بمصطلح التعددية وما ينتج عنها من تزاحم بشري، ويقدمون معالجاتهم للتعايش السلمي في ظل واقع التعددية المجتمعية والتي ترادف التركيب الداخلي للإنسان، ولا مشاحة في الإصطلاحات إذا كان المعنى واضح والواقع واحد، فواقع التعددية والصراع يفرض نفسه على الإنسان في داخله وخارجه منذ بدء الخليقة، ولوازمه تعيش معه كذلك، وكما فلح جماعة من الإنسان في حسن إدارة صراعهم الداخلي وفشل آخرون، كذلك نجحت مجتمعات وفشلت أخرى في ذلك، وليست القضية مقتصرة على أيدلوجية أو فكر ما، بل النجاح والفشل هنا رهين حسن الإدارة والتنظيم، أما التقيمات المتعصبة التي تعزو الفشل أو النجاح إلى أيدلوجية أو فكر ما، فهي تقيمات غير ناضجة لا تستحق المناقشة، لأنها تحكم على الأيدلوجيات والأفكار بالممارسات التي لا تعبر عنه بالضرورة.
المجتمع الناضج كما الفرد الناضج، يمتلك مراحل تقييم وتقويم لمساره بعد أن يحدد الهدف المنشود، وفي حال تشخيص الإنحراف عند التقييم تبدأ مرحلة التقويم التي تنبني على نتيجة التقييم، فإن كان التشخيص الراشد وصل إلى حالة خلل في الصراع المحرك للمجتمع والمحافظ على خصوصيات مكوناته، تبدأ عملية التقويم بالمصالحة، بحيث أولًا تبدأ بالتصالح الإجتماعي بين المكونات المجتمعية، كي تتوافق على بقية الخطوات من تغيير مسالك العمل أو النصوص الدستورية والقانونية التي ساهمت في حالة الخلل، أو كليهما، والمصالحة الحقيقية هي التي تستوعب كافة عناصر المجتمع دون اقصاء أو تمييز، وبحفظ الخصوصيات للأطياف المتعددة، والتوافق على المشتركات التي هي دائمُا أكثر وأكبر من الإختلافات، فقط حين يخلع الناس نظارات التعصب الذي يهدم أي جهد في تحقيق التقويم المنشود، بل هو عائق في مرحلة التقييم أيضاُ، وحالة التعصب هي الحالة المفضلة لدى أي سلطة لتحافظ على مكتساباتها مقابل مطالب الشعوب، فطبيعة السلطة لا تسعى لمصالحات شاملة، بل مصالحات شكلية تبقي حالة الخلل تحت التخدير، وتيقضها متى ما اقتضت مصلحتها، لذلك فالشعب هو الذي ينبغي له أن يمسك بزمام المبادرة في أي مصالحة وطنية، لتكون كلمته واحدة، بحيث لا تلتف عليه الحكومات، فالمصالحة تبدأ من الشعب مع نفسه، ثم الشعب مع حكومته.
بعد أزمات عدة عاشها مجتمعنا الكويتي في السنين الماضية، وما زال يعيشها وتتجه الأمور نحو انسداد أفق العمل السياسي، تعالت الكثير من الأصوات تنادي بالمصالحة الوطنية، دون أن تخطو هيئات المجتمع المدني من قوى سياسية وجمعيات وجماعات، إلى حوار وطني يكون نقطة الإنطلاق لمثل هذه المصالحة، ويكون بمثابة تصالح إجتماعي بين مكونات المجتمع الكويتي، بل البعض عامدًا لمصالح أو غافلًا يزيد من حالة التخاصم المجتمعي حين يقتصر المصالحة على فئته وقضاياه، واقصاء للآخر تحت عناوين ومبررات لا تصلح إلا لتبرير تعصبه وطائفيته، بينما الحاجة اليوم ملحة لحوار وطني شعبي، يقيَم التجربة السياسية بمسالكها ونصوصها الدستورية والقانونية، والتأثيرات الإقليمية والعالمية عليها، وتقويمها نحو استراتيجية راشدة تقدم للسلطة كمشروع وطني لكويت المستقبل، تزامنًا مع الإطروحات التي تبحث عن المستقبل بالتنمية المادية والعمرانية، فالعملية السياسية بحاجة إلى إصلاح شامل يبدأ بالمصالحة وينتهي بترشيده المستدام، وفق الدستور الذي وضع شرط المزيد من الحريات لتعديل نصوصه التي هي فعلاً بحاجة لذلك، لتتلائم والزمن الذي نعيش، ولنتجاوز سلبيات التجرية السياسية ونحافظ على ايجابياتها ومكتسباتها.
الشعب أولًا بحاجة إلى التصالح مع نفسه، بأن يعيش اختلافاته السياسية برشد، من خلال صراع المشاريع السياسية لتقديم الأفضل في حالة تنافسية راشدة، لا أن يحيلها إلى صراع عنصري هنا وطائفي هناك، بحيث يستحيل إلى صراع وجودي لا مكان للتعايش السلمي فيه، وهيئات المجتمع المدني ثانيًا بحاجة إلى التصالح عبر التنادي لحوار وطني شامل يقدم المشروع الراشد للسلطة، والسلطة حتمًا بحاجة إلى التصالح مع شعبها اليوم، في ظروف اقليمية وعالمية حساسة، بل وشديدة الخطورة، بحيث لا يمكن تجاوزها إلا عبر إلتفاف الجميع شعبًا وسلطة حول بعضهم البعض، ولا يكون ذلك إلا بالخطوات الراشدة المذكورة، بدون علاجات ترقيعية أو تخديريه، والكويت كما كانت في عنق الآباء والأجداد هي كذلك في أعناقنا أمانة يجب أن تصان