عندما تسبق الرجولة..سن البلوغ … بقلم سلوى معروف
شعرٌ كستنائيٌّ فاتح..منسدل إلى أسفل رقبته
بياضٌ صبغته أشعة الشمس فغدا سماراً
عينان عسليتان واسعتان..تُسحرك لمعتهما
نحيل..يرتدي ملابساً بدت فضفاضة من شدّة نحالته
لم يتجاوز الحادي عشر من العمر
يحمل بيديه كيساً كبيراً من محارم الوجه..وفي عينيه أمل ربيعٍ بدا مضمحلاً بعد توهّجه
يجول شوارع بيروت من الساعة السابعة صباحاً حتى السابعة ليلاً
حلمه اليوميّ بسيط..أن يستطيع بيع أكبر عدد من علب المحارم..خلال اليوم ليؤمّن القوت لإخوته الثلاثة الذين يصغرونه بالسنوات والمسؤوليات
خيمٌ تتناسب في اللّون والشكل والهندام مع وثيقة التشرّد والتهجيرالقصريّ
لا كهرباء ولا ماء
لم تنعم برفاهية أن تجمعها شبكة صرف صحيّ
فاكتفت بأن تتكاتف بمجموعة من الحبال ..تُنشر ملابس التعتير فوقها
نسوا أن يرصفوا الممرّات التي تتخلّلها..فبقي تراب وحجارة الأرض مشاجيب تُدمي أقدام الأطفال الحُفاة فوقها
يحرقها هجير الشمس صيفاً..وتعصف بها ثلوج كانون شتاءً
تصطفّ داخلها فرشات اسفنج..عارية..لم يسمح الوقت ليد المحسنين سترها
أطفالٌ ونساءٌ..شيوخٌ ورجالٌ..فتيانٌ وفتياتٌ كُدّست داخل تلك الخيم..تحت شعار تعاضد البؤس والحرمان
لم تُزوّد بمصابيح تُنير ظلامها ..وبقي القمر وحده من يُزيّن ليلها
الساعة الخامسة فجراً..يحمل غالونين فارغين بسعة خمسة عشر لتراً للواحد..يمشي في ممرات مخيم الموت..ويصل إلى طرفه..خزّانٌ صغيرٌ للمياه..اصطفّ المشردون بطوابير طويلة ينتظر كل منهم نصيبه من مياه اليوم
ينتظر نصف ساعة..يأتي دوره..يملي الغالونين..ويلعب دور الرجل..رجل صغيرٌ.. ساعدان هشّان يُجبرهما على الصمود.. فيحمل الغالونين ..يُرهقه ثقلهما فيستريح بعد كل مترين
يصل إلى خيمته..يضع حمله..ويبدأ بتثبيت ركائز الخيمة التي لعبت بها رياح الليل
يعود إلى طرف المخيم
يفصله عن منطقة من يستحقون الحياة والعيش..شارع عام كبير
يضع حياته على كفه..ويقول “الاتكال على الله” ويركض ..يصل إلى بقالة كبيرة على الطرف الآخر من الحياة
يشتري ربطة خبز،علبة صغيرة من اللبن،بعض حبات الطماطم،بعض حبات الخيار،وقليلاً من الزيتون
يعاود التوكّل على الله ويصل إلى خيمته
يضعهم في الداخل..
وينصرف إلى تحصيل رزق أهله اليوميّ
يركب الباص..ويذهب إلى المنطقة التي اعتاد كل يوم أن يجول شوارعها
عطلةٌ صيفيّة..قررت العائلة أن تقضيها في لبنان
أجول أنا وأبنائي الأربعة في سيارة في شوارع بيروت
اقتربَ من نافذة السيارة..
“خالتي تشتري مني محارم الله يخليلك أولادك !”
أنظر إليه..فيقول
“الله يرضى عليكي بدي أشتري أكل لأخواتي”
لا زلت أنظر إليه
“بس واحدة ساعديني الله يساعدك”
ترتجف يدايّ..ويبدأ القلب بالخفقان..
لا عشقاً..
بل تحسراً على أمةٍ..لم يكن فيها “معتصماه”
قلت :من أين أنت؟
قال:من سوريا
قلت:من أين من سوريا؟
قال: من الشام
قلت في نفسي: ..أيُعقل أنّك ابن الشام
تلك القلعة الشامخة الأبيّة التي ركع تحت نعالها يوماً ..جبروت الفرس والرومان؟؟؟
فأبكي على زمنٍ مات فيه الفَرَس والخيّال..
أسألُ ….
من أرخى الله عليهم النعمة..
وما عرفوا طعم البؤس على الضفة الأخرى للحياة..
ولم يكن عندهم حب الفضول للتعرف عليه لصغر سنه
لماذا يبيع المحارم وهو صغير؟
لأن ليس لديه مال..
ولما ليس لديه مال؟
لانّه مُهجَّر
ما معنى مُهجَّر؟
اضطّر أن يترك وطنه ويسكن في غير وطنه
لماذا؟
هرباً من القتل ؟
من سيقتله؟
الكبار؟
أي كبار؟
من يعتقدون أنفسهم كبارا؟
توالت الأسئلة ..وفي تلك اللحظة أحسست بموجة غضب لم أستطع تحمّلها فطلبت منهم الصمت
أنزلُ من السيّارة أقول:” بكم الكيس كلّه؟”
يقول: “عشرة آلاف”
قلت أعطني الكيس كلّه..وأعطيته عشرين ألف “ورقتين من العشرة آلاف”
قال:”خالةهاي عشرة ،حقن بس عشرة”
قلت :”أعلم، ولكن أريد أن أعطيك إياها”
قال:”لا خالة أنا ما بسرق أنا ما باخد أكتر من حقي حرام الله شايفني”
قلت في نفسي والدموع تترقرق في عينيّ:”حبيبي الأمّة العربية كلها شايفتك وما حدا حِكي”
قلت أين أبوك ؟
قال:” قتلوه”
قلت: أين أمّك؟
قال:”مع إخوتي الصغار في الخيمة”
أسأله :”لمّا تكبر بدّك تقتلن؟”
قال:” لا،بدّي سامحن”
قلت:”ليش بدّك تسامحن بس هني قتلوا أبوك وتركوك تتعذّب أنت وإخواتك؟”
قال: “أبي وصّاني هني وعم يقتلوه إنّي سامحن”
قلت :”وحتسامحن؟”
قال:”ايه خالة بدّي سامحن”
قلت :”أنت مقتنع إنّك لازم تسامحن وما تقاتلن؟”
قال بنبرة من يقول وعلى يقين ممّا يقول
“ايه خالة مقتنع ،أنا يا خالة بدي أبني سوريا ما بدي هدها ..الله يسامحن ويهديهن أكيد ما بيعرفوا انو اللي عم يعملوه غلط وظلم والله ما بيرضى بالظلم”
قلت:”هيك علموك بالمدرسة؟”
قال” علموني بالمدرسة أبني الوطن،وعلمني أبي أبني قلبي”
فسألته:”وأنت شو راح تختار ؟تبني قلبك أو وطنك؟
فيقول:” خالة أنا لمّا ببني قلبي ..بكون عم ببني وطني”
بكيتُ..أحسست في تلك اللحظة أنّي سأسقط على الأرض
أنا لن أقول لك يا بنيّ، ولن أقول لك يا خالتي، أنا سأخاطبك بما يليق بك..بما يليق بمقامك وأناديك
يا سيدي..
يا سيدي من علمك الرجولة المبكّرة
يا سيدي من علمك المروءة التي رحلت عن ديارنا منذ زمنٍ بعيد
يا سيدي من علمك الصبر..وأنت غضٌّ طريّ
يا سيدي من علمك الأمانة..في زمن ماتت فيه العفّة والكرامة
يا سيدي .. من علّمك طهارة القلب؟؟ من علّمك الفداء؟؟
يا سيدي.. علّمهم الرجولة..علّمهم الوفاء
قل لهم إنّك لن تقابل الدّماء بالدّماء
علّمهم يا سيدي فلسفة الحب والعطاء
قل لهم يا سيدي إن التسامح ليس خنوعاً..ولا إنهزاما
قل لهم إن التسامح كرمٌ، نخوةٌ، شجاعةٌ، وشهامة
يا سيدي قل لهم إن الدّم لن يصبح ماء مهما هانَ
يا سيدي قل للكبار ..إن الرجولة مواقف لا سواعد
يا سيدي قل للكبار.. إن الرجولة قلبٌ رحيم..لا خطط دمار
يا سيدي قل للكبار.. إن المسامح كريم..لا ضعيف
يا سيدي علّم الكبار المروءة
ذكّرهم بالنبيّ يوسف “عليه السلام” يوم التقى بإخوته..قابلهم بالاحتضان لا بالنّار
ذكّرهم أن الرسول الكريم حين دخل مكّة فاتحاً.. ما قطع رؤوساً ولا سفك دماً
بل قال “وأنا أقول كما قال أخي يوسف لا تثريب عليكم اليوم”
يا سيدي..
سأتذكّرك كلما أحسست بالخيبة واليأس من هذه الأمّة
سأتذكّر أن الطواغيت قتلوا الأنبياء..ولكنّهم لم يقتلوا أخلاق الأنبياء
سأتذكّر يا سيدي أن الجبابرة داسوا على الشرفاء..لكنّهم ما قضوا على الشرف والإباء
يا سيدي رموا أطفال ماشطة ابنة فرعَون في المحرقة..وما تزعزع إيمانها
يا سيدي اضطهدوا المسيح..ولا تزال تعاليمه باقية
يا سيدي قطعوا رأس الحسين..ولا زال دمه ينبض في عروق المسلمين
يا سيدي
قل لهم إن الجنّة تهون لأجلها نار الدنيا
قل لهم إن المظلوم أقوى من الظالم في اللآخرة
قل لهم إن الدم ينتصر على السيف أبدا ما بقي فجر الصباح يبزغ
قل للكبار يا سيدي..”إن من قتلوا الرجال..تركوا أبناء الرجال..رجالا”
قل لهم إن أحفاد أسامة بن زيد..لا زالوا على خطاه
قل لهم إن أحفاد طارق بن زياد ما هانوا وما وهنوا
قل لهم إن أحفاد صلاح الدين لم يُهزموا
لكنّهم متمسكون بوصايا الرسل والأنبياء
يا سيدي سوريا لم تنحن..والشام لم تُهزم..والعروبة باقية شامخة..ومروءة الصحابة لا تزال تنبض
طالما هناك شبل عربيّ مثلك.. أخذ على عاتقه حماية إرث الأمة
يا سيدي كل ذلك القتل والبطش لن يغير في دائرة التكوين شيئاً
سيبقى القرآن ..قرآنا
ويبقى الإنجيل..إنجيلا
ويبقى الإنسان..إنسانا