«أبتاه.. أنت بقلبي» … بقلم أنور جاسم الخرافي
إلى من ربّاني صغيراً ورعاني كبيراً..
إلى من فقدت بفقده أباً كبيراً وأخاً ناصحاً ومرشداً أميناً..
إلى من أمرني الله بأن أخفض له جناح الذل من الرحمة..
إلى من سألت الله أن يمنحني رضاه في حياته، وأنا الآن أسأله – تعالى – أن يمنحني بره بعد وفاته.
أبتاه.. ما أعظمها من كلمة. عندما أرددها أشعر بأني غارق في الخجل مطأطئ الرأس إجلالاً وإكباراً واحتراماً.
أبتاه.. ذلك المعنى الكبير، والعطاء الكثير، والحنان العظيم، وكأن الله خلق العطاء وقال له كن رجلاً.. فكان أبي.
ابتاه.. كم أفتخر وأستشرف بك أنت الذي علمتني الرضا بقضاء الله وقدره، وأن الموت حق وكل نفس ذائقة الموت، صغيراً أو كبيراً، وأنت الذي علمتني أن السراء والضراء بيد الله عز وجل، وعليّ في الأولى الحمد والشكر، وفي الثانية الحمد والصبر، وأنت الذي علمتني أن الصبر آخره خير، والصابرين هم رجال الله.
أبتاه.. الغائب الحاضر، رحلت ولم ترحل، وقد قيل بالأمس القريب «رحل جاسم محمد الخرافي».
رحلت بجسدك الطاهر، ولم ترحل عن قلوبنا، سبقتنا إلى رحمة ربك، ونحن نترسم خطاك، وأنا أحسن الظن فيه سبحانه أنه برحمته وفضله سيجزيك خير الجزاء على ما قدمت من أعمال خيرية كانت تدخل مجالات كثيرة في بلدنا الحبيب الكويت وفي خارجها، وليس هناك فخر أعظم من فخر الابن بأعمال أبيه الخيرية.
أبتاه.. أسلوبك التربوي مغروس في أعماقنا، فما زلت أذكر وصاياك لنا في كل مناسبة «راس مالكم محبة الناس مو اللي تملكونه».
نعم، لقد لمسنا هذا بعد انتقالك الى رحمته تعالى حين تقاطرت الجموع لتقديم العزاء، ليس من المسؤولين في الكويت وخارجها فقط، بل كانت مَن أفراد الشعب بجميع شرائحه، لقد أحبوا فيك ابتسامتك وروعة بشاشتك وطهارة قلبك وتسامحك العظيم، وهذا ما يفسر حب الله لك؛ لأن الله إذا أحب عبدا حبّب فيه عباده.
رحمك الله يا من لهجت الألسن بالدعاء له من كل من عرفك ولم يعرفك وسمع بخبر وفاتك، ونسأل الله أن يتقبل دعاء من دعا وأن ينال أجر دعائه.
أبتاه.. كم كنت حريصاً على اجتماعاتنا العائلية، كنت تزرع فينا معاني كثيرة. كم كنت تحضّنا على صلة الرحم والترابط والتكامل وتوقير الكبير والعطف على الصغير.
وما يؤكد أن محبته تجاوزت أسرته إلى جميع أفراد العائلة، موقف مؤثر لا أنساه أبدا، حين سأل ابن عمتي مرزوق الغانم أخي لؤي، الذي كان مرافقا لوالدي في الطائرة العائدة من اسطنبول إلى الكويت بعد وفاته بساعات: «خالي الساعة جم توفى؟». فأجابه أخي: «الساعة العاشرة».
إلى هنا السؤال بديهي، ولكن السؤال الذي يليه هو الذي يكشف محبة عائلة المرحوم له ومدى حرصهم على أن يكون رحمة الله عليه انتقل إلى الرفيق الأعلى مؤديا جميع فرائضه، فكان سؤاله: «خالي صلى العشاء قبل وفاته؟». فأجابه: «نعم». هذا السؤال ليس فضولا أو حب استطلاع، بل يعكس عمق المحبة التي كان يتمتع بها بين جميع أفراد العائلة، صغيرهم وكبيرهم.
والدي العزيز..
لقد كان اهتمامك بأحفادك رسالة أخرى لنا بأهمية حسن التربية، فقد حثثتنا على الالتزام بها حتى رأيت منهم ـــ ولله الحمد ـــ ما يسرك، وقد أدركت من حياة جدي محمد ـــ يرحمه الله ـــ ما رأيته من حسن برِّك به وعظيم اكتسابك من سيرته العطرة، والذي كان من أوائل الأجيال المؤسسة لدولة الكويت الحديثة، وكنت خير موصل للقيم النبيلة من جيله.
نعم، رحلت وما زلت في قلوبنا.. فهذه والدتي الرؤوم هي امتداد لمدرستك العظيمة، فهي صابرة على البلاء؛ تدعو وتستغفر، وصدقاتها الجارية تزداد لك يوما بعد يوم، تذّكرنا دائما بالدعاء لك، وأن نفعل كل خير اقتبسناه منك.
رحلت أنت وبقيت الوالدة ذخراً لنا، فيا رب أكرمنا ببرّها وطاعتها واحفظها لنا، وأسأل الله أن يفرّج كربها، وأن يذُهب عنها الهم والحزن.
أسأل الله أن يتجاوز عنك ويتغمدك بواسع رحمته، واسأله تعالى ان يجزيك عني وعن والدتي واخواني واختي خير الجزاء، وأسأله تعالى أن يجمعك بواسع رحمته مع الشهداء والصديقين إنه سميعٌ مجيب.
اللهم اغفر لنا جهلنا بقدر آبائنا، اللهم لا تجعلنا جاحدين لفضلهم ولا مقصرين نحوهم يا رب..
وأخيراً، لا أملك دعاء أفضل من أمر الله لنا: «وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا». ربي ارحمهما كما ربياني صغيراً، ربي ارحمهما كما ربياني صغيراً.
ابنك الذي لا ينسى فضلك ولا إحسانك
أنور جاسم الخرافي
نشر بالقبس