أرجوك.. توقّف عن الحبّ …للشاعرة خولة سامي سليقة
أبي ! و إذا ما قلتها فكأنني .. أنادي و أدعو يا بلادي و يا ركني
لمن يلجأ المكروب بعدك في الحمى .. فيرجع ريّان المنى ضاحك السنّ؟
كل نقطة من روحي تنادي مع أبي ماضي. أطال الله في عمرك يا أبي. مهما عاندتنا
الحياة بقسمتها الجائرة، كلما ازدادت المسافات تمدداً لتثقل صدورنا حتى يغدو
الاختناق وشيكاً، نظلّ نتمسّك بملامح محفورة في القلب. نقاوم. نتبلّدُ. نتذكّرُ أكثر.
ننجو.
أبي..
على الناحية الأخرى من الكرة، تشرق عليه الشمس حين يلفنا نومٌ ثقيل. لن أسمي ما
يطلع عليه صباحاً، إذ لا راحة قبله و لا أحلام تداعب جفنيه، سوى حفنة كوابيس تهزّ
سرير سكينته بعنف حيناً و تواتر خفيف حيناً آخر، تجعل منه شخصاً يعيش عدة
حيوات في الوقت عينه. الأقسى أنها كوابيس خلقت من أجمل حنين و أمضى غياب.
إنه الموزّع على امتداد آسيا و إفريقيا و أمريكا و أوروبا، يحرّك خريطة الأرض بين
أصابعه، يقلّب صورنا على محركات البحث الدؤوبة بلا كللٍ، يفكّر في صحة هذا
و عمله، جامعة ذاك و اختباراته، مشكلات هؤلاء و ما يكابدونه في ظل الموت
الصامت، خيبات تلك و أحزانها، أوجاع الجميع بلا استثناء.
ذنبه أنه رجلٌ، أبٌ، قلبٌ نسي صيانة المضخة على مسرّ السنين، اعتقد أنه خُلق لغير
ذاته، و أنه آلة روحها لا تتعب، تزييتها بالدمع أجدى، و إهمال ضجيجها أفضل، بينما
الأكثر أهميةً عنده هو الحب!
لو كان دمعه ما يؤلمني فقط لاكتفيت بالنظر، رغم حرص الرجال على إخفاء ماء
العيون، لكني مذ أبصرت الضوء أدركت أنه المخلوق لما هو أكبر من الأبوة، و كلما
ابتعد خرج الأب أكثر من صدره و عينيه حتى غدا طيفاً شفافاً، يزور بيوتنا واحداً تلو
الآخر؛ إن مرض أحدنا وخزه صدره فاتصل هاتفياً على عجلٍ عاتباً عن سبب إخفاء
الأمر عليه، حتى لتلبسك الدهشة متى و كيف و من أخبره؟ لتعرف أنه رأى فيما يراه
النائم أن فلاناً في مرضٍ أو آخر في شدّة كما لو أنه بيننا.
كيف تطرق أبوابه الأخبار و النوم قد هجره؟
ما أكثر ما لام بعضنا الآخر حول سبب إعلامه و إغراقه في حوادث عابرة أو عراقيل
زائلة، لنثق بعد مضي الوقت أنه حقاً كان و لا يزال روحاً محلّقةً تترك أرضها كل ليلة
لتطوف على أسرّتنا كما كنا صغاراً، تدثّر، تعانق، تبسم، تدعم، تنصحُ، تحصّن، ثمّ
تعود إلى عالمها.
في كلّ مرة أهاتفهُ فيها أحبّه أكثر و أكثر بلا نهايةٍ، أشفق على أبوّته أكثر، على نحولٍ
يغزوه بلا يأسٍ، على تلال من الصور لا تبرح بريق عينيه، و أنين يصفر في قطار
كلماته القادمة من بعيد.
الهاتف بصوته و صورته عاجز حقاً عن الصدق ، يلزمه أن يضيف إلى خدماته الكثيرة
احتضاناً خفيفاً، ربّما أوشوش أبي خلاله:
أرجوك .. توقّفْ عن الحب.
خولة سامي سليقة