تواصلوا بالحق … بقلم محمد حبيب المحميد
بقدر ما يملك الإنسان من حرية بقدر ما يتحمل مسؤولية ، فلا موضوع للحرية المطلقة ما دام هناك مجتمع يعيش فيه الإنسان ، لأن لهذا المجتمع تنظيم ، والتنظيم يعني حقوق وواجبات ، ويعني توازن بين الفردية والإجتماعية ، ولأن الحديث هنا عن الإعلام وبالذات التواصل الإلكتروني ، فالحديث هنا عن حرية الرأي ومسؤولية الكلمة ، خصوصًا بعد خروج الإعلام من المؤسسات إلى يد الجماهير عبر التواصل الإلكتروني .
في عصر التواصل الإلكتروني أصبحت صناعة الرأي العام تبادلية بين الجماهير والمؤسسات الإعلامية ، التي دخلت إلى هذا الميدان بقوة لتواكب التطور التقني ، والجماهير بات لها دور في توجيه أنفسها من خلال تناول القضايا العامة ، دون اغفال الأيدي التي توجه الجماهير نحو تلك القضية دون غيرها ، من خلال مفاتيح مؤثرة في جماهير التواصل الإلكتروني ، فلذا في مثل هذا العصر الوعي المنشود أكبر من ذي قبل ، يوم كان الجمهور يبحث في أجندات الإعلام من خلال معرفة مالكيه ، أما اليوم فالأولويات المراد لها تصدر الساحة قد تصنعها ذات المؤسسات الإعلامية بأدي غيرها ، وقد تفرض الجماهير أولوياتها على هذه المؤسسات .
مبدأ التحقق من الخبر هو مبدأ عقلائي وأخلاقي وإسلامي لازم مع كل تطور في مجال الإعلام ، بعد أن انتشر الكذب والتدليس والإجتزاء والإخفاء وغيرها من الوسائل التي طغت على مواقع التواصل في كل شأن ، فمعلومات طبية خاطئة هنا ، وتدليسات دينية هناك ، و يا لخطورتها إن كانت طائفية ، وأما الشأن السياسي فحدث ولا حرج ، تدخل كل أدوات المصلحية السياسية في تشكيل رأي عام ، حتى ولو بالأموال ناهيك عن تحريك الحسابات الوهمية .
وللأسف انخرط في ذلك العديد من ذوي الرجاحة واللب ، حتى ظن البعض أن “الفيس بوك” حوزة علمية ، وظن آخر أن “التويتر” جامعة دينية ، وثالث يتعامل مع “الواتساب” كمستشفى لعلاج جميع الأمراض التي استعصت حتى على أمهر المؤسسات الطبية البحثية ، وبين كل هذا ضاع أهل الميادين المتخصصين ، وضاعت الحقيقة التي ينبغي مع كل هذا التقدم التقني أن تكون في أجلى صورها ، ولكن الحال بات بالعكس ، نتيجة فوضى النشر وعدم التحقق مما ينشر .
ولا يقتصر مبدأ التحقق على الخبر بأنواعه ، بل يتعداه ليشمل كل معلومة في كل شأن ، فيُرجع في كل شأن إلى صاحب التخصص المتبحر في تخصصه ، لا المتبحر في مواقع التواصل الاجتماعي ، حتى صارت القضايا الفكرية والفلسفية مبتذلة بيد من لا يفقه منها إلا مصطلحاتها ، وضاع بين كل هذا حق الكتاب علينا ، الكتاب الذي يعطي المرء ثقافة حقيقية في كل مجالاته ، ويعطي المتخصص عمقًا علميًا في تخصصه ، وضاع أيضًا حق العلماء الذين يبذلون الجهود في ميادينهم لصالح بعض أشباه العلماء الذين يبذلون جهودًا في مواقع التواصل الاجتماعي دون أدنى علم وفهم ، ويتجاسر بعضهم على أهل العلم بحق ليكسب الجماهير المتعطشة للتواصل مهما كانت المادة .
ومن المؤسف أن يعتقد البعض أن كلمة “منقول” أو “كما وصلني” هي إبراء للذمة في نشر كل ما يرد على الإنسان ، ومساوئ هذا النشر أحيانًا تكون خطيرة إذا ما مست الأمن في أي بلد ، أو مست المعتقدات والطوائف ، بينما القرآن الكريم ينادي “ولا تقفُ ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا” (الإسراء 36) ، فبحجم ما نملك من حرية النشر علينا مسؤولية الكلمة أخلاقيًا ودينيًا ، وهذه ليست دعوة للحجر على الآراء أو ترك مواقع التواصل ، بل هي دعوة لأن تكون هذه المواقع كما هو مسماها ، تواصل اجتماعي على الطريقة القرآنية “وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر” (العصر 3) ، أما الحقائق العلمية فتكون في أبحاثها ، والحقائق الدينية في حواضرها ، والمناقشات الفكرية في محلها وبين أهلها ، نعم إذا ما طرحت نتائج مثل هذه الحقائق في مواقع التواصل ينبغي الإحالة على مصادرها ، كي لا يكون الوعي معلبًا وسطحيًا.