حياة الصحابي الجليل حمزة بن عبد المطلب سيد الشهداء وأسد الله
كانت مكة تغطّ في نومها، بعد يوم مليء بالسعي، وبالكدّ، وبالعبادة وباللهو، والقرشيون يتقلبون في مضاجعهم هاجعين، غير واحد هناك يتجافى عن المضجع جنباه، يأوي إلى فراشه مبركا، ويستريح ساعات قليلة، ثم ينهض في شوق عظيم، لأنه مع الله على موعد، فيعمد إلى مصلاه في حجرته، ويظل يناجي ربه ويدعوه، وكلما استيقظت زوجته على أزير صدره الضارع وابتهالاته الحارّو الملحة، وأخذتها الشفقة عليه، ودعته أن يرفق بنفسه ويأخذ حظه من النوم، يجيبها ودموع عينيه تسابق كلماته: ” لقد انقضى عهد النوم يا خديجة”!! حمزة وابن أخيه رسول الله لم يكن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أرّق قريش بعد، وإن كان قد بدأ يشغلا انتباهها، فلقد كان حديث عهد بدعوته، وكان يقول كلمته سرا وهمسا. كان الذين آمنوا به يومئذ قليلين جدا، وكان هناك من غير المؤمنين به من يحمل له كل الحب والإجلال، ويطوي جوانحه على شوق عظيم إلى الإيمان به والسير في قافلته المباركة، لا يمنعه سوى مواضعات العرف والبيئة، وضغوط التقاليد والوراثة، والتردد بين نداء الغروب، ونداء الشروق. من هؤلاء كان حمزة بن عبد المطلب عم النبي صلى الله عليه وسلم وأخوه من الرضاعة. كان حمزة يعرف عظمة ابن أخيه وكماله، وكان على بيّنة من حقيقة أمره، وجوهر خصاله، فهو لا يعرفه معرفة العم بابن أخيه فحسب، بل معرفة الأخ بالأخ، والصديق بالصديق، ذلك أن رسول الله وحمزة من جيل واحد، وسن متقاربة. نشأ معا وتآخيا معا، وسارا معا على الدرب من أوله خطوة خطوة، ولئن كان شباب كل منهما قد مضى في طريق، فأخذ حمزة يزاحم أنداده في نيل طيبات الحياة، وإفساح مكان لنفسه بين زعماء مكة وسادات قريش، في حين عكف محمد على أضواء روحه التي انطلقت تنير له الطريق إلى الله، وعلى حديث قلبه الذي نأى به من ضوضاء الحياة إلى التأمل العميق، وإلى التهيؤ لمصافحة الحق وتلقيه،نقول: لئن كان شباب كل منهما قد اتخذ وجهة مغايرة، فإن حمزة لم تغب عن وعيه لحظة من نهار فضائل تربه وابن أخيه، تلك الفضائل والمكارم التي كانت تحلّ لصاحبها مكانا عليّا في أفئدة الناس كافة، وترسم صورة واضحة لمستقبله العظيم.
حمزة يتابع قلق قريش من دعوة النبي في صبيحة ذلك اليوم، خرج حمزة كعادته، وعند الكعبة وجد نفرا من أشراف قريش وساداتها فجلس معهم، يستمع لما يقولون، وكانوا يتحدثون عن محمد، ولأول مرّة رآهم حمزة يستحوذ عليهم القلق من دعوة ابن أخيه، وتظهر في أحاديثهم عنه نبرة الحقد، والغيظ والمرارة. لقد كانوا من قبل لا يبالون، أو هم يتظاهرون بعدم الاكتراث واللامبالاة. أما اليوم، فوجوههم تموج موجا بالقلق، والهمّ، والرغبة في الافتراس. وضحك حمزة من أحاديثهم طويلا، ورماهم بالمبالغة، وسوء التقدير، وعقب أبو جهل مؤكدا لجلسائه أن حمزة أكثر الناس علما بخطر ما يدعو اليه محمد ولكنه يريد أن يهوّن الأمر حتى تنام قريش، ثم تصبح يوما وقد ساء صاحبها، وظهر أمر ابن أخيه عليها، ومضوا في حديثهم يزمجرون، ويتوعدون، وحمزة يبتسم تارّة، ويمتعض أخرى، وحين انفض الجميع وذهب كل إلى سبيله، كان حمزة مثقل الرأس بأفكار جديدة، وخواطر جديدة. راح يستقبل بها أمر ابن أخيه، ويناقشه مع نفسه من جديد!! موقف حمزة من دعوة النبي ومضت الأيام، ينادي بعضها بعضا ومع كل يوم تزداد همهمة قريش حول دعوة الرسول، ثم تتحوّل همهمة قريش إلى تحرّش. وحمزة يرقب الموقف من بعيد، إن ثبات ابن أخيه ليبهره، وإن تفانيه في سبيل ايمانه ودعوته لهو شيء جديد على قريش كلها، برغم ما عرفت من تفان وصمود!! ولو استطاع الشك يومئذ أن يخدع أحدا عن نفسه في صدق الرسول وعظمة سجاياه، فما كان هذا الشك بقادر على أن يجد إلى وعي حمزة سبيلا.
فحمزة خير من عرف محمدا، من طفولته الباكرة، إلى شباب الطاهر، إلى رجولته الأمينة السامقة، إنه يعرفه تماما كما يعرف نفسه، بل أكثر مما يعرف نفسه، ومنذ جاءا إلى الحياة معا، وترعرعا معا، وبلغا أشدّهما معا، وحياة محمد كلها نقية كأشعة الشمس،!! لا يذكر حمزة شبهة واحدة ألمّت بهذه الحياة، لا يذكر أنه رآه يوما غاضبا، أو قانطا، أو طامعا، أو لاهيا، أو مهزوزا،. وحمزة لم يكن يتمتع بقوة الجسم فحسب، بل وبرجاحة العقل، وقوة الإرادة أيضا، ومن ثم لم يكن من الطبيعي أن يتخلف عن متابعة انسان يعرف فيه كل الصدق وكل الأمانة، وهكذا طوى صدره إلى حين على أمر سيتكشّف في يوم قريب. وجاء اليوم الموعود .. إسلام حمزة وخرج حمزة من داره، متوشحا قوسه، ميمّما وجهه شطر الفلاة ليمارس هوايته المحببة، ورياضته الأثيرة، الصيد، وكان صاحب مهارة فائقة فيه، وقضى هناك بعض يومه، ولما عاد من قنصه، ذهب كعادته إلى الكعبة ليطوف بها قبل أن يقفل راجعا إلى داره. وقريبا من الكعبة، لقته خادمة لعبد الله بن جدعان، ولم تكد تبصره حتى قالت له: “يا أبا عمارة، لو رأيت ما لاقي ابن أخيك محمد آنفا من أبي الحكم بن هشام، وجده جالسا هناك، فآذاه وسبّه وبلغ منه ما يكره”، ومضت تشرح له ما صنع أبو جهل برسول الله، واستمع حمزة جيدا لقولها، ثم أطرق لحظة، ثم مد يمينه إلى قوسه فثبتها فوق كتفه، ثم انطلق في خطى سريعة حازمة صوب الكعبة راجيا أن يلتقي عندها بأبي جهل، فإن هو لم يجده هناك، فسيتابع البحث عنه في كل مكان حتى يلاقيه، ولكنه لا يكاد يبلغ الكعبة، حتى يبصر أبا جهل في فنائها يتوسط نفرا من سادة قريش. وفي هدوء رهيب، تقدّم حمزة من أبي جهل، ثم استلّ قوسه وهوى به على رأس أبي جهل فشجّه وأدماه، وقبل أن يفيق الجالسون من الدهشة، صاح حمزة في أبي جهل: “أتشتم محمدا، وأنا على دينه، أقول ما يقول؟! ألا فردّ ذلك عليّ إن استطعت”، وفي لحظة نسي الجالسون جميعا الإهانة التي نزلت بزعيمهم أبي جهل والدم الذي ينزف من رأسه، وشغلتهم تلك الكلمة التي حاقت بهم كالصاعقة، الكلمة التي أعلن بها حمزة أنه على دين محمد يرى ما يراه، ويقول ما يقوله. أحمزة يسلم؟ أعزّ فتيان قريش وأقواهم شكيمة؟ إنها الطامّة التي لن تملك قريش لها دفعا، فإسلام حمزة سيغري كثيرين من الصفوة بالإسلام، وسيجد محمد حوله من القوة والبأس ما يعزز دعوته ويشدّ أزره، وتصحو قريش ذات يوم على هدير المعاول تحطم أصنامها وآلهتها! أجل أسلم حمزة، وأعلن على الملأ الأمر الذي كان يطوي عليه صدره، وترك الجمع الذاهل يجترّ خيبة أمله، وأبا جهل يلعق دماءه النازفة من رأسه المشجوج، ومدّ حمزة يمينه مرّة أخرى إلى قوسه فثبتها فوق كتفه، واستقبل الطريق إلى داره في خطواته الثابتة، وبأسه الشديد! كان حمزة يحمل عقلا نافذا، وضميرا مستقيما، وحين عاد إلى بيته ونضا عنه متاعب يومه. جلس يفكر، ويدير خواطره على هذا الذي حدث له من قريب،كيف أعلن اسلامه ومتى؟ لقد أعلنه في لحظات الحميّة، والغضب، والانفعال، لقد ساءه أن يساء إلى ابن اخيه، ويظلم دون أن يجد له ناصرا، فيغضب له، وأخذته الحميّة لشرف بني هاشم، فشجّ رأس أبي جهل وصرخ في وجهه باسلامه، ولكن هل هذا هو الطريق الأمثل لكي يغاار الانسان دين آبائه وقومه، دين الدهور والعصور، ثم يستقبل دينا جديدا لم يختبر بعد تعاليمه، ولا يعرف عن حقيقته إلا قليلا. صحيح أنه لا يشك لحظة في صدق محمد ونزاهة قصده، ولكن أيمكن أن يستقبل امرؤ دينا جديدا، بكل ما يفرضه من مسؤوليات وتبعات، في لحظة غضب، مثلما صنع حمزة الآن؟ وشرع يفكّر، وقضى أياما، لا يهدأ له خاطر، وليالي لا يرقأ له فيها جفن، وحين ننشد الحقيقة بواسطة العقل، يفرض الشك نفسه كوسيلة إلى المعرفة. وهكذا، لم يكد حمزة يستعمل في بحث قضية الإسلام، ويوازن بين الدين القديم، والدين الجديد، حتى ثارت في نفسه شكوك أرجاها الحنين الفطري الموروث إلى دين آبائه، والتهيّب الفطري الموروث من كل جيد، واستيقظت كل ذكرياته عن الكعبة، وآلهاها وأصنامها، وعن الأمجاد الدينية التى أفاءتها هذه الآلهة المنحوتة على قريش كلها، وعلى مكة بأسرها. لقد كان يطوي صدره على احترام هذه الدعوة الجديدة التي يحمل ابن أخيه لواءها، ولكن إذا كان مقدورا له أن يكون أحد أتباع هذه الدعوة، المؤمنين بها، والذائدين عنها، فما الوقت المناسب للدخول في هذا الدين،؟ لحظة غضب وحميّة؟ أم أوقات تفكير ورويّة؟ وهكذا فرضت عليه استقامة ضميره، ونزاهة تفكيره أن يخضع المسألة كلها من جديد لتفكر صارم ودقيق. وبدأ الانسلاخ من هذا التاريخ كله، وهذا الدين القديم العريق، هوّة تتعاظم مجتازها، وعجب حمزة كيف يتسنى لإنسان أن يغادر دين آبائه بهذه السهولة وهذه السرعة، وندم على ما فعل، ولكنه واصل رحلة العقل، ولما رأى أن العقل وحده لا يكفي لجأ إلى الغيب بكل إخلاصه وصدقه، وعند الكعبة، كان يستقبل السماء ضارعا، مبتهلا، مستنجدا بكل ما في الكون من قدرة ونور، كي يهتدي إلى الحق وإلى الطريق المستقيم. ولنضع إليه وهو يروي بقية النبأ فيقول: “ثم أدركني الندم على فراق دين آبائي وقومي، وبت من الشك في أمر عظيم، لا أكتحل بنوم، ثم أتيت الكعبة، وتضرّعت إلى الله أن يشرح صدري للحق، ويذهب عني الريب، فاستجاب الله لي وملأ قلبي يقينا، وغدوت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته بما كان من أمري، فدعى الله أن يثبت قلبي على دينه” وهكذا أسلم حمزة إسلام اليقين. حمزة أسد الله وأسد رسوله أعز الله الإسلام بحمزة ووقف شامخا قويا يذود عن رسول الله، وعن المستضعفين من أصحابه، ورآه أبو جهل يقف في صفوف المسلمين، فأدرك أنها الحرب لا محالة، وراح يحرّض قريشا على إنزال الأذى بالرسول وصحبه، ومضى يهيء لحرب أهليّة يشفي عن طرقها مغايظة وأحقاده، ولم يستطع حمزة أن يمنع كل الأذى ولكن إسلامه مع ذلك كان وقاية ودرعا، كما كان إغراء ناجحا لكثير من القبائل التي قادها إسلام حمزة أولا ثم إسلام عمر بن الخطاب بعد ذلك إلى الإسلام فدخلت فيه أفواجا! ومنذ أسلم حمزة نذر كل عافيته، وبأسه، وحياته، لله ولدينه حتى خلع النبي عليه هذا اللقب العظيم: “أسد الله، وأسد رسوله”. حمزة في غزوة بدر وأول سرية خرج فيها المسلمون للقاء عدو، كان أميرها حمزة، وأول راية عقدها رسول الله صلى الله عليه وسلم لأحد من المسلمين كانت لحمزة، ويوم التقى الجمعان في غزوة بدر، كان أسد الله ورسوله هناك يصنع الأعاجيب! وعادت فلول قريش من بدر إلى مكة تتعثر في هزيمتها وخيبتها، ورجع أبو سفيان مخلوع القلب، مطأطئ الرأس. وقد خلّف على أرض المعركة جثث سادة قريش، من أمثال أبي جهل، وعتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأميّة بن خلف، وعقبة بن أبي معيط، والأسود بن عبد الله المخزومي، والوليد بن عتبة، والنفر بن الحارث، والعاص بن سعيد، وطعمة بن عديّ، وعشرات مثلهم من رجال قريش وصناديدها. وما كانت قريش لتتجرّع هذه الهزيمة المنكرة في سلام،. فراحت تعدّ عدّتها وتحشد بأسها، لتثأر لنفسها ولشرفها ولقتلاها، وصمّمت قريش على الحرب. المؤامرة على حمزة بن عبد المطلب وجاءت غزوة أحد حيث خرجت قريش على بكرة أبيها، ومعها حلفاؤها من قبائل العرب، وبقيادة أبي سفيان مرة أخرى. وكان زعماء قريش يهدفون بمعركتهم الجديدة هذه إلى رجلين اثنين: الرسول صلى الله عليه وسلم، وحمزة رضي الله عنه وأرضاه. أجل والذي كان يسمع أحاديثهم ومؤامراتهم قبل الخروج للحرب، يرى كيف كان حمزة بعد الرسول بيت القصيد وهدف المعركة، ولقد اختاروا قبل الخروج، الرجل الذي وكلوا إليه أمر حمزة، وهو عبد حبشي، كان ذا مهارة خارقة في قذف الحربة، جعلوا كل دوره في المعركة أن يتصيّد حمزة ويصوّب إليه ضربة قاتلة من رمحه، وحذروه من أن ينشغل عن هذه الغاية بشيء آخر، مهما يكن مصير المعركة واتجاه القتال. ووعدوه بثمن غال وعظيم هو حريّته، فقد كان الرجل واسمه وحشي عبدا لجبير بن مطعم، وكان عم جبير قد لقي مصرعه يوم بدر فقال له جبير: “اخرج مع الناس وإن أنت قتلت حمزة فأنت عتيق”! ثم أحالوه إلى هند بنت عتبة زوجة أبي سفيان لتزيده تحريضا ودفعا إلى الهدف الذي يريدون. وكانت هند قد فقدت في معركة بدر أباها، وعمها، وأخاها، وابنها، وقيل لها إن حمزة هو الذي قتل بعض هؤلاء، وأجهز على البعض الآخر، من أجل هذا كانت أكثر القرشيين والقرشيّات تحريضا على الخروج للحرب، لا لشيء الا لتظفر برأس حمزة مهما يكن الثمن الذي تتطلبه المغامرة! ولقد لبثت أياما قبل الخروج للحرب، ولا عمل لها إلا إفراغ كل حقدها في صدر وحشي ورسم الدور الذي عليه أن يقوم به، ولقد وعدته إن هو نجح في قتال حمزة بأثمن ما تملك المرأة من متاع وزينة، فلقد أمسكت بأناملها الحاقدة قرطها اللؤلؤي الثمين وقلائدها الذهبية التي تزدحم حول عنقها، ثم قالت وعيناها تحدّقان في وحشي: “كل هذا لك، إن قتلت حمزة!”، وسال لعاب وحشي، وطارت خواطره توّاقة مشتاقة إلى المعركة التي سيربح فيها حريّته، فلا يصير بعد عبدا أو رقيقا، والتي سيخرج منها بكل هذا الحلي الذي يزيّن عنق زعيمة نساء قريش، وزوجة زعيمها، وابنة سيّدها! كانت المؤمرة إذن، وكانت الحرب كلها تريد حمزة رضي الله عنه بشكل واضح وحاسم. وجاءت غزوة أحد والتقى الجيشان. وتوسط حمزة أرض الموت والقتال، مرتديا لباس الحرب، وعلى صدره ريشة النعام التي تعوّد أن يزيّن بها صدره في القتال، وراح يصول ويجول، لا يريد رأسا إلا قطعه بسيفه، ومضى يضرب في المشركين، وكأن المنايا طوع أمره، يقف بها من يشاء فتصيبه في صميمه!وصال المسلمون جميعا حتى قاربوا النصر الحاسم، وحتى أخذت فلول قريش تنسحب مذعورة هاربة، ولولا أن ترك الرماة مكانهم فوق الجبل، ونزلوا إلى أرض المعركة ليجمعوا غنائم العدو المهزوم، لولا تركهم مكانهم وفتحوا الثغرة الواسعة لفرسان قريش لكانت غزوة أحد مقبرة لقريش كلها، رجالها، ونسائها بل وخيلها وإبلها!! استشهاد حمزة بن عبد المطلب لقد دهم فرسانها المسلمين من ورائهم على حين غفلة، وأعملوا فيهم سيوفهم الظامئة المجنونة، وراح المسلمون يجمعون أنفسهم من جديد، ويحملون سلاحهم الذي كان بعضهم قد وضعه حين رأى جيش محمد ينسحب ويولي الأدبار، ولكن المفاجأة كانت قاسية عنيفة. ورأى حمزة ما حدث فضاعف قوته ونشاطه وبلاءه، وأخذ يضرب عن يمينه وشماله، وبين يديه ومن خلفه، ووحشيّ هناك يراقبه، ويتحيّن الفرصة الغادرة ليوجه نحوه ضربته، ولندع وحشي بن حرب يصف لنا المشهد بكلماته: وحشي يحكي كيف قتل حمزة رضي الله عنه “وكنت رجلا حبشيا، أقذف بالحربة قذف الحبشة، فقلما أخطئ بها شيئا، فلما التقى الناس خرجت أنظر حمزة وأتبصّره حتى رأيته في عرض الناس مثل الجمل الأورق، يهدّ الناس بسيفه هدّا، ما يقف أمامه شيء، فوالله إني لأتهيأ له أريده، وأستتر منه بشجرة لأقتحمه أو ليدنو مني، إذ تقدّمني إليه سباع بن عبد العزى. فلما رآه حمزة صاح به: هلمّ إليّ يا بن مقطّعة البظور (لأن أمه أم أنمار مولاة شريق والد الأخنس كانت ختانة بمكة)، ثم ضربه ضربة فما أخطأ رأسه، عندئذ هززت حربتي حتى إذا رضيت منها دفعتها، فوقعت في ثنّته (ما بين أسفل البطن والعانة) حتى خرجت من بين رجليه، ونهض نحوي فغلب على أمره ثم مات، وأتيته فأخذت حربتي، ثم رجعت إلى المعسكر فقعدت فيه، إذ لم يكن لي فيه حاجة، فقد قتلته لأعتق”. ولا بأس في أن ندع وحشيا يكمل حديثه: “[فلما قدمت مكة أعتقت، ثم أقمت بها حتى دخلها رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح فهربت إلى الطائف، فلما خرج وفد الطائف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليسلم تعيّت عليّ المذاهب. وقلت: الحق بالشام أو اليمن أو سواها، فوالله إني لفي ذلك من همي إذ قال لي رجل: ويحك! إن رسول الله، والله لا يقتل أحد من الناس يدخل دينه، فخرجت حتى قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة فلم يرني إلا قائما أمامه أشهد شهادة الحق. فلما رآني قال: أوحشيّ أنت؟ قلت: نعم يا رسول الله، قال: فحدّثني كيف قتلت حمزة، فحدّثته، فلما فرغت من حديثي قال: ويحك، غيّب عني وجهك، فكنت أتنكّب طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث كان، لئلا يراني حتى قبضه الله إليه. فلما خرج المسلمون إلى مسيلمة الكذاب صاحب اليمامة خرجت معهم، وأخذت حربتي التي قتلت بها حمزة، فلما التقى الناس رأيت مسيلمة الكذاب قائما، في يده السيف، فتهيأت له، وهززت حربتي، حتى إذا رضيته منها دفعتها عليه فوقعت فيه، فإن كنت قد قتلت بحربتي هذه خير الناس وهو حمزة، فإني لأرجو أن يغفر الله لي إذ قتلت بها شرّ الناس مسيلمة”. هكذا سقط أسد الله ورسوله هكذا سقط أسد الله ورسوله، شهيدا مجيدا! وكما كانت حياته مدوّية، كانت موتته مدوّية كذلك، فلم يكتف أعداؤه بمقتله، وكيف يكتفون أو يقتنعون، وهم الذين جنّدوا كل أموال قريش وكل رجالها في هذه المعركة التي لم يريدوا بها سوى الرسول وعمّه حمزة، لقد أمرت هند بنت عتبة زوجة أبي سفيان، أمرت وحشيا أن يأتيها بكبد حمزة، واستجاب الحبشي لهذه الرغبة المسعورة، وعندما عاد بها إلى هند كان يناولها الكبد بيمناه، ويتلقى منها قرطها وقلائدها بيسراه، مكافأة له على إنجاز مهمته.ومضغت هند بنت عتبة -زوجة أبي سفيان قائد جيوش الشرك الوثنية- مضغت كبد حمزة، راجية أن تشفي تلك الحماقة حقدها وغلها. ولكن الكبد استعصت على أنيابها، وأعجزتها أن تسيغها، فأخرجتها من فمها، ثم علت صخرة مرتفعة، وراحت تصرخ قائلة: نَحْنُ جَزَيْنَاكُمْ بِيَوْمِ بَـــــــــــــــــــــدْرٍ *** وَالْحَرْبُ بَعْدَ الْحَرْبِ ذَاتِ سُعْرِ مَـــــا كَـانَ عَــــنْ عُتْبَةَ لِي مِنْ صَبْرِ *** وَلَا أَخِـــي وَعَمِّهــــِ وَبَكْــــرِي شَفَيْتُ نَفْسِي وَقَضَيْـتُ نَــــــــــــذْرِي *** شَفَيْـــتَ وَحْشِــيُّ غَلِيلَ صَدْرِي فَشُكْـــرُ وَحْشِــــيٍّ عَلَيَّ عُــــــمْــــرِي*** حَتَّى تَرُمَّ أَعْظُمِــــي فِـي قَبْـرِي وانتهت المعركة، وامتطى المشركون إبلهم، وساقوا خيلهم قافلين إلى مكة، ونزل الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه معه إلى أرض المعركة لينظر شهداءها، وهناك في بطن الوادي، وهو يتفحص وجوه أصحابه الذين باعوا لله أنفسهم، وقدّموها قرابين مبرورة لربهم الكبير، وقف فجأة، ونظر، فوجم، وضغط على أسنانه، وأسبل جفنيه.فما كان يتصوّر قط أن يهبط الخلق العربي على هذه الوحشية البشعة فيمثل بجثمان ميت على الصورة التي رأى فيها جثمان عمه الشهيد حمزة بن عبد المطلب أسد الله وسيد الشهداء، وفتح الرسول عينيه التي تألق بريقهما كومض القدر، وقال وعيناه على جثمان عمّه: “لن أصاب بمثلك أبدا، وما وقفت موقفا قط أغيظ إليّ من موقفي هذا”. ثم التفت إلى أصحابه وقال: “لولا أن تحزن صفيّة -أخت حمزة- ويكون سنّة من بعدي، لتركته حتى يكون في بطون السباع وحواصل الطير، ولئن أظهرني الله على قريش في موطن من المواطن، لأمثلن بثلاثين رجلا منهم”، فصاح أصحاب الرسول: “والله لئن ظفرنا بهم يوما من الدهر، لنمثلن بهم مثلة لم يمثلها أحد من العرب!”.ولكن الله الذي أكرم حمزة بالشهادة، يكرّمه مرة أخرى بأن يجعل من مصرعه فرصة لدرس عظيم يحمي العدالة إلى الأبد، ويجعل الرحمة حتى في العقوبة والقصاص واجبا وفرضا، وهكذا لم يكد الرسول صلى الله عليه وسلم يفرغ من القاء وعيده السالف حتى جاءه الوحي وهو في مكانه لم يبرحه بهذه الآية الكريمة: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125) وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (126) وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (127) إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل: 125]. وكان نزول هذه الآيات، في هذا الموطن، خير تكريم لحمزة الذي وقع أجره على الله تعالى. سيد الشهداء حمزة كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحبه أعظم الحب، فهو كما ذكرنا من قبل لم يكن عمّه الحبيب فحسب، بل كان أخاه من الرضاعة، وتربه في الطفولة، وصديق العمر كله، وفي لحظات الوداع هذه، لم يجد الرسول صلى الله عليه وسلم تحية يودّعه بها خيرا من أن يصلي عليه بعدد الشهداء المعركة جميعا.وهكذا حمل جثمان حمزة إلى مكان الصلاة على أرض المعركة التي شهدت بلاءه، واحتضنت دماءه، فصلى عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ثم جيء يشهيد آخر، فصلى عليه الرسول، ثم رفع وترك حمزة مكانه، وجيء بشهيد ثالث فوضع إلى جوار حمزة وصلى عليهما الرسول، وهكذا جيء بالشهداء، شهيد بعد شهيد، والرسول عليه الصلاة والسلام يصلي على كل واحد منهم وعلى حمزة معه، حتى صلى على عمّه يومئذ سبعين صلاة.وينصرف الرسول من المعركة إلي بيته، فيسمع في طريقه نساء بني عبد الأشهل يبكين شهداءهن، فيقول عليه الصلاة والسلام من فرط حنانه وحبه: “لكنّ حمزة لا بواكي له!” ويسمعها سعد بن معاذ فيظن أن الرسول عليه الصلاة والسلام يطيب نفسا إذا بكت النساء عمه، فيسرع إلى نساء بني عبد الأشهل ويأمرهن أن يبكين حمزة فيفعلن، ولا يكاد الرسول يسمع بكاءهن حتى يخرج إليهن، ويقول: “ما إلى هذا قصدت، ارجعن يرحمكن الله، فلا بكاء بعد اليوم”. في رثاء حمزة بن عبد الطلب ولقد ذهب أصحاب رسول الله يتبارون في رثاء حمزة وتمجيد مناقبه العظيمة، فقال حسان بن ثابت: دَعْ عَنْك دَارًا قَدْ عَفَا رَسْمُهَـــا *** وَابْكِ عَلَى حَمْزَةَ ذِي النّائلِ وَاللّابِسِ الْخَيْلَ إذْ أَجْحَمَــــــتْ *** كَاللّيْثِ فِي غَابَتِهِ الْبَاســــِلِ أَبْيَضُ فِي الذّرْوَةِ مِنْ هَاشِــــمٍ *** لَمْ يَمُرّ دُونَ الْحَقّ بِالْبَاـــــلِ مَالَ شَهِيدًا بَيْنَ أَسْيَافِكُــــــــــمْ *** شُلّتْ يَدًا وَحْشِيّ مِنْ قَاتِـــلِ على أن خير رثاء عطّر ذكراه كانت كلمات رسول الله صلى الله عليه وسلم له حين وقف على جثمانه ساعة رآه بين شهداء المعركة وقال: “رَحْمَةُ اللَّه عليك، فَقَدْ كُنْتَ وَصُولًا لِلرَّحِمِ، فَعُولًا لِلْخَيْرَاتِ”. عزاء أي عزاء، في أسد الله وسيد الشهداء لقد كان مصاب النبي صلى الله عليه وسلم في عمه العظيم حمزة فادحا، وكان العزاء فيه مهمة صعبة، بيد أن الأقدر كانت تدّخر لرسول الله صلى الله عليه وسلم أجمل عزاء، ففي طريقه من أحد إلى داره مرّ عليه الصلاة والسلام بسيّدة من بني دينار استشهد في المعركة أبوها وزوجها وأخوها، وحين أبصرت المسلمين عائدين من الغزو، سارعت نحوهم تسألهم عن أنباء المعركة، فنعوا إليها الزوج، والأب، والأخ، وإذا بها تسألهم في لهفة: “وماذا فعل رسول الله؟” قالوا: “خيرا، هو بحمد الله كما تحبين!” قالت: “أرونيه، حتى أنظر اليه!” ولبثوا بجوارها حتى اقترب الرسول صلى الله عليه وسلم، فلما رأته أقبلت نحوه تقول: “كل مصيبة بعدك، أمرها يهون!”.أجل، لقد كان هذا أجمل عزاء وأبقاه، ولعل الرسول صلى الله عليه وسلم قد ابتسم لهذا المشهد الفذّ الفريد، فليس في دنيا البذل، والولاء، والفداء لهذا نظير، سيدة ضعيفة، مسكينة، تفقد في ساعة واحدة أباها وزوجها وأخاها، ثم يكون ردّها على الناعي لحظة سمعها الخبر الذي يهدّ الجبال: “وماذا فعل رسول الله؟!”.لقد كان مشهد أجاد القدر رسمه وتوقيته ليجعل منه للرسول الكريم صلى الله عليه وسلم عزاء أي عزاء، في أسد الله، وسيّد الشهداء!
المزيد : http://islamstory.com/detailes.php?module=artical&slug=حمزة_بن_عبد_المطلب