صدّقوه … بقلم خولة سامي سليقة
المسمار. يؤرقه هذا المسمارُ و كلّ ما جاوره من أشباهه. كم سترة شنقها الليل عليه
هنا!
ليلٍ أنفقوه معاً حديثاً ضحكاً و لهوا. سقطت مسامير الخزانة في غير موضع عالجها،
بعض مسامير سريره خانت الخشب أعادها، مسامير البوابة الخارجية أيضاً ، حتى
مسامير ركبتيه اهترأت، إلا مسمار خلف الباب، مسطح الرأس تقريباً طرقته الأيام بما
يكفي، يخيفه صموده، يدفعهأن يتفقّد رأسه كمن يخشى عين قناص تتعقبه.
يهرم بلا موعد كلما طرق سمعه رحيل أحد الأصدقاء أو رفاق الدراسة فجأة، بلا
مرض بلا عناء أو حوادث مخيفة، لكأن طابور الموت يرتب العباد وفق أعمارهم
أو مراحلهم الدراسية، و لعلّ البعض تهافتوا على أصباغ الشعر و إخفاء الشيب بعد أن توهّموا أن الترتيب موجود.
صدّقوه لو أخبركم حكاياته الكثيرة، هو الذي شهد من بعيد قوافل الورد ترحل، لملم خطوط الأثواب الطويلة عن ترابه وحيداً لا أحد بكاه، لا أحد ودّعه .
لم يكن وحيداً تماماً كانت معه الذّكرى.
الأصدقاء، المعارف ،عابرو شريط الحياة المسجّل، المتفرجون،المراقبون تركوا
بطريقة أو أخرى توقيعا واضحاً أو مبهماً على صفحة ما، آثار إبهام، شعرة بين
طيات الكتاب، و ظلّ المسمارُ مستنداً إلى الجدار قويّاً.
شتاءً يبدو الأمر طبيعياً إن عبرنا الشارع بلا مظلة، و ختمت مرورنا العاري قطراتُ
المطر . ماذا عن الخريف؟
أقلقهُ الخريف كثيراُ، و في كل مرة كان يبكي ثمة مطر يهطل،يعلن أن يومه مختلف،
أن الشمس لنتأتي. كانيخاف أكثر مما يحسّ. مذ درس في الجامعة اعتاد أن يقاوم
كلّ صعبٍ بجلادة،يذرع الوقت كما ينبغي و أكثر، قبلأن ينام يعمد إلىغسل روحه
بالدموع، يبسمصحبهلو رأوا بقاياها في عينيهلكأنّما اغتسلت أرواحهم معه.
آخر مرة بكاهم لم يبكأمامهم.
خشي الخريف أكثر.
البعيد لا يشبه شيئاً أو أحداً يعرفه،الماضي أسوأ بكثير من نبشه،و لا يمكنه الاحتفاء
بالحاضر و عقله يعدو نحو الخرف بعجالةٍ، أمس كان المسمار خلف الباب يلد معاطف
قديمة، قبعات يعرفها جيداً، أوشحة ملونة رآها في أفلام قديمة أو في خياله، يدرك
أنّ ما لميحدث بعد يقتلُ بعنفٍ أكثر ممّا حدثَ.
نادمٌ فما سألهمقبل أن يتمزق الوقت و تسقطأشجار الحكاية في سطور الماء، أكانت
أيامهم عقب سفره جميلة كما قبلها؟ صعبٌ هذا الخريف، هذا الخرف، هذا المسمار،
هذا الرحيل. عاد متأخراً جداً، منهكاً أكثر من اللازم، لكنه لا يلوم أحداً،لا صحبه لا أصدقاء هلا الحياة. يلوم نفسه.
خولة سامي سليقة