فى القلب يا …«عميد الدبلوماسية» و«حكيم العرب»
يشهد التاريخ والأحداث التي مرت بها المنطقة والعالم على أن الكويت حرصت دائماً على ألا تكون طرفاً في التجاذبات أو الدخول ضمن الأجندات الإقليمية وأنها كرَّست جهودها دائما على التدخل فقط بما يصب في تنمية الشعوب الصديقة والشقيقة ويساعدها على تجاوز الأزمات كما برعت في الوساطة والمساعي الحميدة بمنتهى الكفاءة، ليس على مستوى دول الإقليم ولا المنطقة العربية فحسب، بل على مستوى العالم أجمع ما أكسبها ثقلا سياسيا بالغ التأثير، ساهم في صناعة صورة ثابتة لها كراعية للسلم والأمن وهو ما اتصفت به مدرسة الدبلوماسية الكويتية التي أرسى قواعدها الشيخ صباح الأحمد. بدأت جهود الكويت في الوساطة مبكراً وكانت أولى تلك المحاولات من خلال مشاركة الشيخ صباح الأحمد في الجهود المبذولة لتخفيف من حدة الصراع بين المتنافسين من الجمهوريين والملكيين وقد شارك سموه في بعثة الوساطة التي ترأسها أمير الكويت آنذاك الشيخ صباح السالم التي قامت بزيارة الرياض في 1965 وكان من نتائجها توقيع اتفاقية جدة بين مصر والمملكة العربية السعودية التي نصت على وقف اطلاق النار وانسحاب القوات المصرية من اليمن ووقف المساعدات السعودية للملكيين. كويت السلام وعقب عودة التوتر بين الملكيين والجمهوريين دعت الكويت في أغسطس 1966 إلى اجتماع حضره ممثلون عن السعودية ومصر وقدمت فيه الكويت اقتراحاً للسلام يقوم على أن تحل قوات عربية مشتركة محل القوات المصرية للإشراف على إجراء الاستفتاء، وهو الاقتراح الذي رفضه الرئيس عبدالله السلال ليتدهور الموقف مجدداً. وخلال الأزمة اللبنانية التي استمرت بين عامي 1975 و1989 وما شهدته من حرب أهلية كان لسمو الشيخ صباح الأحمد دور واضح للحفاظ على وحدة الأراضي اللبنانية وتمكين الشعب اللبناني الشقيق من اختيار النظام السياسي الذي يريده كما تصدى للمشروعات التي قدمتها بعض الدول التي هدفت إلى تقسيم لبنان إلى كيانات طائفية وعنصرية يسهل على إسرائيل ابتلاعها. وفي اعقاب هزيمة 1967 تولي سمو الشيخ صباح الأحمد رئاسة وفد الكويت الذي سافر إلى نيويورك لحضور اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة وقام وقتها بدور نشط في تعبئة الرأي العام العالمي ضد العدوان والاحتلال الإسرائيلي للأراضي العربية. وفي الكلمة التي ألقاها سموه أمام الجمعية العامة في 25 يوليو 1967 أعلن أن الكويت مستعدة كل الاستعداد لاستخدام جميع طاقاتها وامكاناتها وتحمل كل تضحية مهما بلغت شدتها من أجل الوصول إلى الحق العربي كاملا غير منقوص. وطالب الشيخ صباح الأحمد في كلمته بانسحاب إسرائيل الفوري الكامل وغير المشروط من جميع الأراضي التي احتلتها ومن بينها مدينة القدس كي لا تستفيد من نتائج عدوانها ولا يتعرض ميثاق المنظمة والقانون الدولي وأمن وسلام العالم للفوضى والاضطراب. وكان سموه على رأس الداعين إلى عقد مؤتمر لوزراء الخارجية العرب عقب الهزيمة وذلك للإعداد لمؤتمر القمة العربي الذي عقد في الخرطوم في 29 أغسطس 1967 وأعلن وقتها التزام الكويت القرارات التي صدرت عن المؤتمر في ما يتعلق بالدعم المادي لدول المواجهة التي اضيرت جراء العدوان. ولم تقف جهود الشيخ صباح على الوساطات العربية ومساندة الحق العربي على طول الخط إذ كان له كذلك دور ايجابي في مساندة الجهود الدولية الرامية إلى مناهضة سياسة التمييز العنصري التي عانت منها بعض شعوب القارة الأفريقية والتصدي للأقليات البيضاء التي ظلت تحتكر الإدارة والحكم بما يخالف إرادة الغالبية العظمى من أهالي تلك البلاد وقد اعتبر الشيخ صباح الأحمد سياسة الفصل العنصري جريمة ضد الإنسانية كما كان دائما ما ينادى بحق الشعوب الأفريقية في الاستقلال والتحرر وتقرير مصيرها. وفي الكلمة التي ألقاها أمام مؤتمر وزراء خارجية دول عدم الانحياز الذي عقد في نيودلهي فبراير 1981 أعلن الشيخ صباح الأحمد تضامن الكويت مع المجتمع الدولي في مقاطعة حكومة جنوب افريقيا سياسيا واقتصاديا وتجاريا ومنع وصول النفط إليها وتأييده المطلق لفرض عقوبات صارمة عليه، مؤكدا إيمانه بأن السياسة العنصرية مذلة للإنسان بسبب لونه فضلاً عن كونها عاراً وخزياً للبشرية جميعها. وإلى جانب دعم القضايا الأفريقية والعربية كان لسمو الشيخ صباح الأحمد مواقف ايجابية في العديد من المشكلات الآسيوية والأوروبية وبخاصة العمل على تعزيز الأمن والسلام في جنوب شرقي آسيا وايجاد حلول سلمية لمشكلة كمبوديا وتأييد حق شعبها في تقرير مصيره إلى جانب المطالبة بسحب القوات الأجنبية من شبه جزيرة كوريا وحل القضايا العالقة بالطرق السلمية. الحرب العراقية ــ الإيرانية خلال حرب الخليج الأولى دعا الشيخ صباح الأحمد الجارة المسلمة ايران الى التجاوب مع الجهود المبذولة لوقف الحرب العراقية ـ الايرانية والاحتكام الى روح وجوهر الاسلام، وحمل الدول الكبرى ومجلس الامن مسؤولية القيام بعمل جاد وسريع لإنهاء هذه الحرب. الوساطة بين اليمن الشعبية وسلطنة عمان لعبت دبلوماسية الكويت بقيادة الشيخ صباح الأحمد وزير الخارجية وقتها دورا كبيرا في احتواء الخلاف بين سلطنة عمان وجمهورية اليمن الديموقراطية الشعبية وهي الخلافات التي ارتبطت بالمشكلات الحدودية بين البلدين. كان موقف سموه يرتكز على أهمية أن يظل الحوار بين الدولتين قائما بدلا من أساليب المقاطعة، وأن الحوار قد يكون سبيلاً لتفهم وجهات النظر واكتساب الثقة التي تمهد حتماً لحل الخلافات القائمة. إعادة الاستقرار إلى لبنان وردع إسرائيل مع اندلاع العدوان الإسرائيلي على لبنان دعا الشيخ صباح الأحمد الولايات المتحدة للعمل على اعادة الامن والاستقرار في لبنان والى ردع اسرائيل واجبارها على الانسحاب من الاراضي اللبنانية والى دعم جهود المملكة العربية السعودية التي كللت بالنجاح في التوصل الى اتفاق في لبنان تأمينا لعودة الحياة والطمأنينة اليه. إطلاق سراح الأسرى الكويتيين في التسعينيات، وبعد تحرير الكويت من الاحتلال العراقي بسنتين، وفي دورة اكتوبر 1993 وفي خطاب شامل، فقد طالب النائب الاول لرئيس مجلس الوزراء وزير الخارجية المجتمع الدولي بالضغط بقوة على النظام العراقي لإرغامه على اطلاق سراح الاسرى والمحتجزين الكويتيين ووضع حد لمعاناتهم، واعتبر استمرار احتجازهم انتهاكاً عراقياً صارخاً لقيم واعتبارات حقوق الإنسان. «حكيم العرب» أطفأ نزاعات المنطقة عايش الشيخ صباح الأحمد، رحمه الله، الذي توفي أمس عن 91 سنة، أخطر أزمات بلاده والمنطقة، وخط مسيرة سياسية حافلة بالأحداث التاريخية والوساطات جعلته «عميد الدبلوماسية» و«حكيم العرب». وحتى قبل تسلّمه مقاليد الحكم قضى الشيخ صباح عقوداً في أروقة الدبلوماسية والسياسة في عهدي الأميرين الراحلين الشيخ جابر الأحمد والشيخ سعد العبدالله. وصل الأمير صباح إلى سدة الحكم في بداية عام 2006، بعدما صوّت البرلمان المنتخب لمصلحة إعفاء الشيخ سعد من مهامه بعد أيام فقط من تعيينه أميراً للبلاد بسبب مخاوف على وضعه الصحي، وتسليم السلطة للحكومة برئاسة الشيخ صباح الذي اختير أميراً في ما بعد. تولى الشيخ صباح وزارة الخارجية الكويتية لسنوات طويلة، وقد عرف خلال فترة عمله في الوزارة بكونه وسيطاً موثوقاً من قبل الدول الإقليمية والمجتمع الدولي.
ولد الأمير الراحل في السادس عشر من يونيو 1929، وهو نجل حفيد الشيخ مبارك الصباح، مؤسس الكويت الحديثة والذي عرف بسياساته المتشددة منذ أن أمر بالتخلص من أخويه لترسيخ الحكم في يد أمير واحد. والشيخ صباح هو الأمير الـ15 للكويت وساعد بلاده على تخطي تبعات غزو العراق، وانهيار الأسواق العالمية، والأزمات المتلاحقة داخل مجلس الأمة الكويتي والحكومة وبين أبناء بلاده. جهد وانخراط وعلى الرغم من تقدمه بالسن، ظل الأمير منخرطاً إلى حد كبير بالأعمال اليومية وبالسياسة الإقليمية والدولية، وقد حضر في نهاية مايو 2019 ثلاث قمم خليجية وعربية إسلامية في مكة استمرت أعمال كل منها حتى ساعات الصباح الأولى. ودعا خلال هذه القمم إلى نزع فتيل الأزمات الإقليمية، وخفض التصعيد في الخليج، بينما كانت التوترات تزداد بين إيران والولايات المتحدة وتوحي بحرب قريبة، داعياً إلى أن «نعمل بكل ما نملك ونسعى إلى احتواء ذلك التصعيد». وفي الأشهر الأخيرة من حياته،
قاد الأمير جهود بلاده لمواجهة فيروس «كورونا» المستجد، وكانت الكويت من أولى دول الخليج التي اتخذت إجراءات إغلاق صارمة لمنع انتشار الوباء الذي أصاب أكثر من مئة ألف من سكان البلاد وتسبب بأكثر من 600 حالة وفاة.
عميد الدبلوماسية وينظر إلى الأمير الراحل على أنّه مهندس السياسة الخارجية الحديثة لدولة الكويت الغنية بالنفط. فخلال عمله على رأس وزارة الخارجية لأربعة عقود، نسج علاقات وطيدة مع الغرب، خصوصاً مع الولايات المتحدة التي قادت الحملة العسكرية لتحرير الكويت من الاحتلال العراقي في 1991.
وبرز في وقت لاحق كوسيط بين دول مجلس التعاون الخليجي وإيران، وبين السعودية وقطر في أعقاب الأزمة التي تسببت بقطع العلاقات بين البلدين في ونيو 2017. ولُقّب الأمير الراحل في الإعلام بـ«عميد الدبلوماسية» و«حكيم العرب».