كتبٌ لا تغادرُ رؤوسنا …بقلم خولة سامي سليقة
أجمل الكتب تلك التي تشغلُ خواطرنا، تشاطرُنا سكينَتنا و فوضاها، نقتسمُ معها البحثَ المحمومَ عن الحقيقة.
رغمَ نفورنا من تلكَ الحقائقِ، لا لشيءٍ لكنّ بعضَ الإجابات المتوهمة أو الفرضيات الضعيفة و النتائج المتأرجحة، أهونُ ألف مرة من حقيقة صاعقة أو دروب تفتك بها الريح بلا مخرج.
كلما قرأت عملاً مذهلاً، تعود بي الذاكرة إلى ما أصابني ذلك اليوم:
لم أشعر بالراحة حتى أجهزتُ على صفحاتِ الرواية المذهلة لعبده خال بعنوان(الطين)؛ إذ أسفتُ أنه لم يتح لي قراءتها قبل هذه السنوات الطويلة التي مرّت على نشرها، قرأت للكاتب رواية (مدن تأكل العشب) فأصابني ذهول في ذلك اليوم، لكنْ بعد قراءة عمله الثاني وجمتُ، ألمت، طرتُ، ضحكت، بكيت، جُنّت الحروفُ على فمي.
لخص الكاتبُ صراع النفس البشرية مع منغصات الحياة، من إهمالِ المحيط للفرد، تجاهلِ المجتمع له، الصراع الأسري و آثاره، الخيبات و صفعاتها، الشروخ التي يدمغ الألمُ بها نفوس البشر لتغدو وشوما تظهرُ في نفوسهم جيلا بعد جيل.
استخدم الكاتب لعرض فكرته انشطار النفس البشرية مَدخلاً، دفعَ البطلُ بوابته الشاهقة بقدمهِ هازئا بقوانين الطبيعة و الفيزياء و الاجتماع و الفلك، غير معارض لما أتى به الدين، داعيا الكون للتمعن و التبصر بآيات الله عملياً دون الاكتفاء بالبحث فيها لغة؛ إذ لا تكفي اللغة برمتها لإيضاح ما يحدث و لا نراه، رغم إحساسنا به حيناً، أو مشاهدة نماذج و حكايات حقيقية تعيش بيننا.
يطرحُ فكرة الحياة الدائرية المستمرة؛ أن الموت بداية و ليس نهاية، أن ثمة حيوات أخرى تعيش بيننا ضمن دوائر قبلنا أو بعدنا لكن لا نتقاطعُ معها، مما يجعل النفس البشرية تحمل في طياتها حوادث و ذكريات حدثت و تحدث في زمن آخر، ليصل إلى
تساؤلات مؤرقة، حول ماهية قدرة الإنسان على العيش في مكانين مختلفين بسبب اختلاف سرعة الزمن. حقيقة الحب و الكره و علاقتها بالسرعة و الاندماج. وجود أهل الكهف خارج مسار الشمس جعلهم لا يدخلون في الزمن نفسه، النوم موتٌ صغير ندخل
عبره إلى حياة جديدة مشبعة بالأحلام و الكوابيس، و قد يشبه الموت النوم في استمرار الحياة بصورة أخرى. نحن عواكس للضوء و في غياب الضوء لن نظهر.
الأرض مدافن لحضارة بعيدة تنظر إلينا من علٍ، و كأن كوكبنا مقبرة لكائنات أخرى. و هلّم جرّا من الطروحات التي لا تتوقف عن إدهاشك.
ليصل بك إلى شاطئ الأمل في قوله: ( إن خروجنا من محدودية القدرة يمكّننا من رؤية الأشياء على حقيقتها * فاليوم بصرك حديد*).
كل هذا ضمن أسلوب خلّابٍ و لغةٍ تثير العجب، كقوله: (هند ،هذه الزهرة التي ضمرت في عروة قميصك ،حين كنتَ تهرب من الوهم إلى الوهم)، (دلقت عليها سؤالاً من حنفية نعاسها الثقيل)، غيرها و غيرها، مما اضطرني إلى ملء الكتابات بقصاصات الورق الملونة، حفظت كلّ ما عذبني وقعاً جرساً و جمالاً، لأجده حين تخونني الذاكرة و يسقط من الرأس بعض الدهشة.
حتى وصلت إلى عبارته: (القرية هي الرّحم الذي يضمنا ،و حين تدفع بنا للمدن نكتشفُ (سوءةَ الدّنيا) أعادتني العبارة هذه إلى عمله الأول، فحييت إبداعه كثيراً.
عملٌ فلسفيّ بامتياز ثقب ليلي تفكيراً، أسرَ ساعات نهاري كلما تخيلتُ حجم الفكرة المبدعة فيه، أو حاولت تقدير الجهد المبذول لتقديم هذه التحفة الأدبية.