كربلاء المصطفون … بقلم محمد حبيب المحميد
تاريخ البشرية حافل بصراع الإرادات، بالقطع واليقين ليس دومًا طرفيه خيرٌ وشر، ولكن الشر دومًا هو أحد أطراف الصراع، فالخير لا يتصارع بل يتنافس فيه المختلف نحو التكامل في سبيل القيم والمبادئ، يتمكن المرء دون بحث وتمحيص أن يجزم أن كل بقعة في هذا الكون شهدت أو تشهد نوعًا من الصراع، وكل مقطع زماني في دورات البشرية كذلك يشهد ضرب من هذه الصراعات، وهذا ما تخوفت منه الملائكة في حوار ينقله الله ذو الجلال في كتابه الكريم “وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ” (البقرة 30) فطبيعة النوع البشري تتصارع حتى في أنفسها قبل مجتمعها، ولكن الله تبارك وتعالى يعلم ما لا يعلم خلقه.
في هذه البشرية المشحونة كانت رسالة الله السلام و”إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلامُ” (آل عمران 19)، وفي هذه البشرية مصطفون من السلام، ويدعون إلى دار السلام، بعد أن وهب الله أرواحهم السكينة والسلام، أنبياء ورسل ورسالات، لتوظيف طاقات البشرية في مسار التكامل، ليستحيل الصراع إلى تنافس في سبيل الله، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون، ولمثل هذا فليعمل العاملون، وما أشد مسارعة ذوي الألباب في هذا الميدان، وما أزهد الأغلب من البشر هنا، زهد الجاهلين الغافلين، لذا هرع هؤلاء لتصفية المصطفون لتستمر مسيرة الصراعات، مما اضطر المصطفون لخوض صراع ليس هو صراع الإرادات المذكور، بل صراع الخير والشر، صراع للدفاع عن البشرية التي تعرضت وتتعرض للغش والخداع، صراع للدفاع عن حقوق الإنسان الحقيقية، حقه في معرفة “من أين؟! وفي أين؟! وإلى أين؟!”، صراع للكشف عن حقيقة عالم التغير والفساد مقابل حياة يستحقها نوع الإنسان.
قدم المصطفون في هذا السبيل التضحيات الجسام، تضحيات لا يسع لذكرها كتاب فضلًا عن مقال، ذكرتها كتب السماء وكتب التاريخ البشري، بل وتحدثت روايات وكتب الملاحم عن نماذج مستقبلية للتضحيات التي سيقدمها أنصار المصطفون في هذا السبيل، إلى أن تظهر دولة العدل الإلهي التي يترقبها هذا الخط بأنبياءه ورسله وأوصيائهم وأنصارهم، ليتنافس فيها الأنداد نحو تكاملهم، بدل أن تتصارع إراداتهم على كل غث وسمين، وكان فصلًا مفصليًا في تضحيات المصطفون تضحية سيد الشهداء الإمام الحسين (عليه السلام)، حيث أنها تضحية ممهدة لهذه الدولة التي ترقبها البشرية، بعد أن تفشل كل صراعات الإرادات في ارساء السلام على المعمورة، وهل من نفس لا ترنو للسلام ومجتمع لا يبحث عنه؟!
كربلاء!.. نهضة الإمام الحسين (عليه السلام)، نهضة الإمتداد لرسالة جده النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله) الذي قدم تضحيات جسام حتى قال : “ما أوذي نبي مثل ما أوذيت” (بحار الأنوار ج39، وكذلك وصيه الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) الذي قال: “لقد ظلمت عدد الحجر والمدر” (نهج البلاغة)، وهكذا على طوال الخط الذي قدمت فيه الزهراء صفوة المصطفون ما قدمت ودونه التاريخ، أما كربلاء فعلى صعيد البكاء والعطاء كانت القمة، فالإمام الحسن السبط الزكي في أوج ظلامته التي تقرح القلوب خاطب أخاه بـ “لا يوم كيومك يا أباعبد الله” (أمالي الشيخ الصدوق)، لأنها عاشوراء!.. حيث الحسين طعمة السيوف، ومـاذا أأروع مـن أن يكون لحمه وقفا على المبضع، كربلاء!.. حيث سبط آخر الأنبياء أجرمت بحقه عصبه من أمة جده بإسم دين جده ووحده هو وارث جده، هذا التزييف الذي مارسته تلك العصابة كان من الخطورة بأن يُخرج الحسين معه بنات رسول الله (صلى الله عليه وآله) وعلى رأسهم فخر المخدرات زينب الكبرى، كيوم المباهلة يوم فصل رسول الله الحق عن الباطل بأسرته وأخرج معه سيدة الدنيا والآخرة فاطمة الزهراء (عليها السلام)، هنا المصطفون يواجهون خطر تزوير الرسالات بعد أن فشل المتزاحمون المتصارعون من اطفاء نور الله، لذا لم تتوانى طغمة الجور في ارتكاب أفضع الجرائم بحق أسرة آخر الأنبياء وأي نبي هو وأي عترة هي عترته، هي خير ما خلق الله من المصطفون.
لا عجب أن تستمر ذكرى كربلاء بحرارتها إلى اليوم وإلى يوم الدين، وكأن الأمة العاصية قد ارتكبت جريمتها بالأمس، لأنها التضحية الكبرى في هذا الخط الإلهي من حيث عظمة شخصيات المصطفون ومن حيث السوابق الإجرامية التي ارتكبها الأعداء، هنا الحق والباطل كالليل والنهار لا لبس فيهما، ولا عجب أن نستمر في مآتمنا على هذه المصيبة فتلك معجزة محمد بن عبد الله النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله) الذي أخبر أن لصاحب هذه المصيبة حرارة لا تنطفئ أبدًا، وهو وعده لابنته الطاهرة البتول بأنْ سيخلق الله شيعة يبكونه، وهو قسم حفيدته التي حملت لواء حفظ خط المصطفون، حيث واجهت رأس الإجرام بخطبة تبهر العقول وتفجع القلوب، نعم أقسمت زينب الكبرى “فوالله لن تمحو ذكرنا ولا تميت وحينا ولا تدرك أمدنا”، لذا فإن شعائرنا التي نحيها هي بكل فخر تحقيقا لما أنبأ عنه رسول الله ووعده لابنته وقسم حفيدته، والشعائر هي سور مدرسة المصطفون، وكما يذكر د. هوستن سميث مؤلف كتاب أديان العالم في مقدمته “إن أحد أهم الأوهام العقلانية هي تصورها أن المبادئ العالمية لدين ما؛ أكثر أهمية من الطقوس والشعائر التي نمت تلك المبادئ في تربتها . إن هذا يشبه قول من يقول أن الشجرة أهم من الشمس والتربة اللذين أخذت الشجرة منهما حياتها”، فلا بقاء لكل المدرسة بمبادئها وقيمها إلا في إحياء الشعائر، لنستمر وتستمر مدرسة المصطفون في التضحيات والعطاء وصولًا ليوم ثارات الحسين (عليه السلام)، ثارات كل التضحيات والمضحين، وإحياء أمر الله على يد آخر الأوصياء لآخر الأنبياء.
السَّلامُ عَلَيْكَ يا وارِثَ آدَمَ صَفْوَةِ اللهِ ، السَّلامُ عَلَيْكَ يا وارِثَ نُوحٍ نَبِيِّ اللهِ ، السَّلامُ عَلَيْكَ يا وارِثَ إِبْراهِيمَ خَلِيلِ اللهِ ، السَّلامُ عَلَيْكَ يا وارِثَ مُوسى كَلِيمِ اللهِ ، السَّلامُ عَلَيْكَ يا وارِثَ عِيسى رُوحِ اللهِ ، السَّلامُ عَلَيْكَ يا وارِثَ مُحَمَّدٍ حَبِيبِ اللهِ ، السَّلامُ عَلَيْكَ يا وارِثَ أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ ، السَّلامُ عَلَيْكَ يا وارِثَ فاطِمَةَ الزَّهْراءِ
محمد حبيب المحميد