لأكسرنّ قلبكِ …للشاعرة خولة سامي سليقة
لم تكن سبعاً وعشرين سَنة، إنها سبعٌ وعشرون سِنة!
يا لمكر الحركاتِ كيف تغيّر المعنى، تغيّرُ الحياة، تقلبها رأساً على عقب.
تنظر إلى الثقوب التي ملأت «بنطال الجينز» الذي يكشف أكثر ممّا يستر من جسد السّاذجة الماثلة أمامها، أهذا ما كان ينقصُ زوجها؟ تهزّ رأسها خارجة نحو باحة المنزل. دفعَها. تألمت. أجبرها على الصّراخ:
– يا جيراني الأعزاء: في الداخل. في غرفتي امرأة سواي، لا ترتدي عباءة رأس مثلي، لا تلتزم بيتها وأبناءها، أو تضحي بعملها، بشهادتها لتربّي وتنشّئ، لا تقود سيارتها بل لديها من يوصلها وأبناءها طوال سبعة وعشرين عاماً، لم تنم ليلة واحدة خارج منزلها إلا برفقة زوجها. لن أكمل. إنه خطيب مسجدكم. إمامكم. تعرفونه أكثر مني وكفى.
هيا يا أولاد. أمام الباب سيارتان تنتظران. اخرجوا بثيابكم التي ترتدونها فقط. لا أريد من بيته شيئاً.
تضع فنجان قهوتها على الطاولة، تمسح دمعها الذي أجّلته حتى غادرت ابنتها الكبرى الليلة منزلها، عروساً رائعة الجمال. لم يحضر والد العروس زفافها بالطبع، فهو نصف واعٍ. هي أمها وأبوها وعائلة أبيها كلها. ساندها أبناؤها، إخوانها وأخواتها، وأصدقاء العمر، تكفي عائلة الأم وتقوم بالواجب حين يكون الطرف الآخر من الغصن يابساً.
تأخر الوقت، نام الجميع. دارت عليهم في غرفهم تطمئن قلبها متفقدة كل شيء، باباً، نافذة، بوابة المنزل الكبيرة، غرفة السائق، طافت بعينيها المكان فالحياة وحيدة علّمتها الكثير. من يصدّق أنها منذ أحد عشر عاماً ولدت من خاصرة الألم كما لو أنها لم تعرف الحياة قبل ذلك؟ تذكر جيداً صوتهُ قبل أن يغادر غرفة الجلوس: والله لأكسرنّ قلبك. انتصب شعر رأسها لصوته وكلماته، غير أنها ربتت على كتف نفسها مهدئة، مبعدة شبح الوساوس عن ذهنها، أتراه يعاقبها لأمر تافه كهذا؟ ما الذي يكسر قلب الأنثى؟ كيف سيكسر قلبها؟ لا. لا إنه رجل يخاف الله ولا يعني ما يقول. الغضب أعماه، سيعود إلى رشده.
أحد عشر عاماً كلما طرقت الجملة رأسها هشمته. دخل البيت يوماً، كعادته توجه حيث يجدها في المطبخ:
– نور. استدارت من دون كلام، مضطربة فما ألقى عليها التحية.
– اسمعي: تزوجت منذ عامين ونصف العام. اليوم رزقت بتوأمين.
تذكر أنها أكملت عملها كأنها لم تسمع شيئاً، أعدت الأرز والمرق واللحم، فلديها من يقوم بمساعدتها في أعباء المنزل، لكن الطبخ لا تسمح لأحد بأن يمدّ يده إليه مذ دخلت بيتها عروساً في الخامسة عشرة من عمرها. كانت ابتساماتها البلهاء تملأ وجهها المنهمر بمطر لا آخر له تمسحه بمنشفتها الصغيرة ثم تلقيها على كتفها متابعةً العمل. أعدت المائدة بهدوء، نادت الأولاد، نزل الجميع إلا زوجها الذي غادر إثر رميه تلك القنبلة.
جلست معهم، سكبت، لا تدري ماذا وضعت في صحنها، تنظر إليهم تريد من كابوسها وخزة توقظها، لعلها لم تسمع جيداً. ما يوجعها فقط كلام صويحباتها وعذلهنّ، أيام ابتعدت عنهنّ بصورة تامة، ملأت أيامها بأعباء اختارتها بنفسها، لم تكمل دراستها كما وعدت أمها، رفيقاتها أكملن رغم الزواج والإنجاب، عطّلت عجلة ذاتها ليكون زوجها أسعد الرجال، لكن من طلب منها تلك التضحيات؟ المشكلة. لا أحد.
أشرفت على رفع المائدة وتنظيف كل شيء، اطمأنت أين جلس كل واحد من أبنائها، دخلت استبدلت عباءتها بأخرى نظيفة، حملت حقيبة يدها متجهة إلى بيت أخيها من دون أن تنبس بحرف. الصور لم ترحمها طوال الطريق خلف الستار الأسود يسيل القهر دمعاً في كل اتجاه، هي التي لم تكتف بالحجاب واللباس المحتشم ولا بالعباءة ولا النقاب، غدت شبحاً كامل السواد خلف النظارة. لم يطلب زوجها كل ذلك، لكنها زوجة إمام المسجد ولا بد أن تكون القدوة. كل أيامها الجميلة معه توالت تباعاً صوراً ملونة بهية، فتضحك، تبسم، ثم تبكي. ساندته حتى حصل على الدكتوراه في اختصاصه، وفرت سبل الراحة لعمله. أنجبت له سبعة رجال يمزقون الوحوش شجاعة، وصبية هي أصغرهم كانت وظلت حديقة عمرها. تعلموا جميعاً كما أرادت لهم، البنت كانت في الصف السادس عندما غادروا بيت أبيهم بلا رجعة. اليوم غادرت بيتها، بيت أمها أجمل عروس.
الصّفعة أفاقتها مذهولة. خلال أشهر طوت عالمها القديم إلى الأبد، وكّلت محامياً، حصلت على الطلاق، حضانة الأبناء، استأجرت بيتاً لها ولهم، استخرجت رخصة قيادة للسيارة، دورات في التنمية البشرية، عملٌ وشراكة مع سيدات في ورش منزلية، عملية شفط دهون وإعادة هيكلة، ظلت محتشمة، لكنها خلعت كل ما يذكرها به، ولدت ناضجة واعية هذه المرة، بلا صراخٍ ومن غير رحمِ أمها.
خولة سامي سليقة