أحلامٌ تصافحُ السّراب …. بقلم خولة سامي سليقة
حتى خلف زنزانة فكره كان يرى و كنت أراه. لا أدري إن كان يراني لكنه حتماً كان يرى شيئاً و إلا كيف عاش حتى خرج إلى دوامة الحياة من جديد؟
النوافذ لا تعني كثيراً حين تتشابه الطرقاتُ و تمتدّ الشوارع باردة، وجوه العابرين فيها بلا مشاعر،النوافذ العالية كثيراً لا نفع منها،يمدّ الخواء رأسه عبر قضبانها و يظلّ القابع في الأسفل رطباً .
علّمني صمته الطويل أن أكلّم النهارات الجديدة و وجهي إلى جدار أخرس، أكسبني شيئاً من هدوئه المربك على المائدة يمضغ الوقت بأناةٍ مستهلكاً عينيّ و دمي، حمّلني أحلامه المركونة في زوايا التأجيل و التسويف إلى أن أرهقتني،منتظراً نافذة مغلقةً يراها كلانا في حائط لا فُتحة فيه و لو كانت بحجم رأس مسمار.
البحر ربما كان يناديه لكنه نسي الماء و كيف تكون العلاقة معه. الجو. لعلّ الطيور تلتقط فيه رائحة قفص فتطرده من هوائها. البراري. حتى الوحشية الكافية لم يتدرّب عليها جيداً.ما الحلّ إذاً إن لم يكن الرحيل؟ عندما ابتكروا هذه الفتحات في الجدران لم يكن مخططاً للشمس أن تدخل منها، كان ثمة لصّ يبحث عن مكان للهرب فقط فأوجدوا له طريقاً،ما خطر لهم الضوء و لا الدفء و لا تلويحات الجارات أو نظرات العاشقين. الخيالات السوداء تعبر الأفكار أولاً مذ خلقنا، هذا ما ظلّ به يخبرني حتى حسبت الباب فتحة لهروب الحياة أيضاً.
ما عاد بإمكاني الآن أن أشدّ على أصابعه مؤكدة صحة تنبؤاته:الطيور خلقت لترحل من مكان إلى مكان، هكذا حكت خطوط الرحيل في عمق كفي.
أريد أن أكذبها و لانظرياتِ أملكها تدحض ما أراه،شيءٌ من الحديث يتفتت بفعل الإنصات الطويل،مرّ وقت لم أحصه على صمته النهائي،كل ما أعلمه عن يومه الأخير في العمل أنهما قتحموا مقرّ عملهم لكن لم يدخلوا المحطة حيث يعمل كثيرون
مثله و تعدمنطقة محظورة لأخطارها الكثيرة، نادوا مجموعة دوّنت أسماؤهم في حقلٍ واحدٍ، ماشعروا لحظتها برابط يجمعهم لكنهم بعدالصحوة عرفوا أنهم من فصيلة الطيور و إن اختلفتألوان ريشهم أو حلّقوا فيمواسم مختلفة.
تعب ريشهُيعاند و ينبت من جديدٍ كلما أعلن اعتزال الأحلام و السفر، لكنهم يركلونه بهمجيتهم ركلاً ، بم يحلم المرء بعد أن يتجاوز عقده الخامس و أكثر؟ماذا ينتظرفي آخر أيام عمره ؟ ربما خيمة دفء، ليل أمان،رشفة ماءٍ نقيّ تبلّ ما تجففه الظلمة ، ضحكة تعيد الحياة إلى نسقها بين أشجار الكرم و حديث الذكريات، أبسط الأشياء ما عادت فيقبضته اللحظة، يجمع بقايا ثيابٍ له في حقيبة جلدية قشّرها الزمن، فقدت عجلتينمنها تواسيه فيميلهافوق الأرض عقب أوجاع ساقه حتىأسفل قدمه،يمسح جبينه
المستحمّ بعرق العجز، يتظاهر بوداع مكان لا يمكن لروحهأن تغادره مهما أمعن في إيلامه.
لا يريد أن ينظر إلى الخلف ربما وقعت عيناهعليّ، على رفيقةِ مرارته فيضعف. يحجبهُ الممر الممتد عني لكني أراه بلا نافذةيمضي بطيئاً، و كلما تقدّم تضعف حركة ساقه حتى لا يكاد يسحبها ثقيلة في بنطاله، ببطء أكثر حتى يتهاوى،أسمع ارتطام الأرض بأحلامه، أراهُ بلا نافذةٍ.بلا عيونٍ، هناك تحتجزهُ البوابة ملقى بلا حراكٍ، البوابة أنثىلا شكّ مثلي تأبى أن يتجاوز حدودَها إلا جثةً هامدةً.