اشعة اكس …بقلم د.يونان وليم
وقف ذلك الطبيب العجوز دكتور مجدى يتطلع الأشعة ويتفحصها بعناية بعد أن وضعها على الفانوس الضوئى ذو الضوء الأبيض الفلورسنتى البراق الذى ينعكس من الجهة الأخرى ليتخلل شعر رأسه الذى كساه خريف العمر باللون الأبيض والذى طالما زاده وقاراً وكشف ببساطة لمن يراه عن مدى خبرته الطبية الواسعة فى علم تشخيص الأمراض والتى تؤهله ان يصدر الفتاوى الطبية فى كل الإتجاهات دون رقيب كما لو كان أبقراط نفسه …
يملك نظرات حادة واثقة وملامح جافة كالأرض التى لم تزرها المياه منذ سنوات وكتلك المقابر التى إبتلعت جميع المشاعر عدا الكآبة والحزن…
شخص غير ودود على الإطلاق لا يتقن فن التواصل مع الآخرين بل لا يكترث به من الأساس
_وبذلك اكتملت لديه مقومات الطبيب الخبير فى مجتمعنا تلك الشخصية الكرتونية التى ينشرح بها قلب أى مريض ويشعر خلالها بسحابة من الثقة تغشى عينيه وتشفى عقله وقلبه
إجتمع حوله لفيف من صغار الأطباء بالقسم جاءوا ليستقوا من علمه وخبراته الواسعه..
وبنظرة الخبير التى اخترقت جوانب الأشعة السينية تفحصها بعناية ورفع حاجبيه ونظر من أعلى نظارته الطبية ذات العدسات المكبرة كالتى استخدمها “جاليليو” فى تلسكوبه لرصد حركة الأرض والنجوم
وبإبتسامة صفراء خبيثة علت شفتيه وأبرزت نابيه من الجانبين كأحد مصاصى الدماء ،،،
قال فى ثقة الخبير ..
إنها أشعة فى غاية الوضوح..
كلاسيكية تشخيصية تصلح لتدريس طلاب الكلية لشدة وضوحها وخلوها من التعقيد..
إنها حالة (التهاب الأسناخ الليفي المشفر cryptogenic fibrosing alveolitis) وهذا تشخيص نهائى لا يحتاج إلى differential diagnosis _أى التشخيص التفريقى وهو أسلوب يستخدمه الأطباء فى وضع قوالب كلاسيكية منظمة لتشخيص الأمراض بطريقة رياضية شيقة تشبه معادلة بما أن هناك كذا وكذا..إذن فهو كذا وليس كذا أو كذا )..
وسط نظرات الجمع الشاخصة عيون غطتها سحابة من الحيرة والحزن والإحباط وقدر من الأمل الزائف والتفائل المصطنع ؛كانت هناك نظرة حالمة وسط تلك النظرات المنبهرة ؛ نظرة من طبيب صغير إلى فانوس الأشعة الأبيض يراه كما لو كان فانوساً سحرياً يسكنه جنى طيب يحقق الأحلام والأمنيات بمجرد ان تفرك الفانوس فركة لولبية تدغدغ خلالها مشاعر الجنى فيخرج من الفانوس ضاحكاً مصهللاً على أهبة الإستعداد لتحقيق أمنياتك فتطلب منه الحل والتشخيص النهائى..
لكن لا تأتى الفوانيس بما يشتهيه الأطباء..!
نظرت بإستياء إلى الأشعة وشعرت بالدوار وكأننى أرى إحدى لوحات الفن البوهيمى التى رسمها صاحبها بأقلام الفحم وراح يصف لمن حوله عن مدى تعبيرة عن المشاعر المختلفة برموز وطلاسم _لا يفهمها أحد سواه بالطبع_ فالحزن مثلاً بخطوط متعرجة لها بداية وليس لها نهاية أو أن ثلاثة نقاط متفرقة فى طرف اللوحة _باللون الأسود أيضاً_ هى تعبير عن حواس غير منضبطة او نفس حائرة وسط فوضى اللاجدوى ..الخ ؛ فيغذى هذا الفنان السادى روحه بمشاعر الجهل وخيبة الأمل وإنبهار من يسمعون شروحاته الغامضة العظيمة لحل شيفرة لغز لوحته..؛
بالمثل كانت الأشعة السينية بالنسبة لى فناً بوهيمياً إخترعه أحد هؤلاء الساديين؛ ما هى إلا ظِلال سوداء لأنسجة متعددة متقاربة ومتلاصقة يصعب على المرء بل يستحيل أحيانا التفرقة بينها ؛ فهى كصورة لظل شجرة تراه على الأرض قد يكون ظلا لفرع من فروعها أو لطائر أو حتى لثعبان.. وكقراءة لفنجان لك أن تتخيل ما تريد أن تراه فيه وأن تبهر من حولك بما يودون سماعه..
سألته فى جرأة وسذاجة جادة “أي هاتين الرئتين هى اليمنى ..يا سيدى؟؟!! ”
وقع كلامى على أذني الرجل كالصاعقة وكمن سقط فى حفرة عميقة ثم أفاق من آثار الصدمة بوقت طويل .. استشاط الرجل غضباً وكاد أن يفتك بى فتكاً وراح يهمهم بكلمات غير مفهومة ..ربما لأن مخارج الألفاظ لديه تشوهت بفعل تساقط معظم أسنانه!!..
فهمت بالطبع _ضمنياً_ أن أغلبها شتائم وسباب ..
ثم شعر بضيق فى النفس ووضع يده على صدره بعدما شعر بألم يعتصره
لا يهم..فالمهم هو أن أفهم ..
فكما يقول المثل الإنجليزى..
“إن أجبرتك الظروف لتصبح أحمقاً فلا تبقى أحمقاً طوال الوقت ”
ولكن يبدو أن الرجل لم يسمع عن هذا المثل قبلاً ،،
ألقى بصورة الأشعة أرضاً ونحمد الله أنه لم يلقِ بفانوس الأشعة الوحيد بالقسم وانصرف غاضباً مصطدما أثناء خروجه ببعض ملفات المرضى التى كانت تحملها إحدى ممرضات القسم وخرج مخلفا ورائه فوضى عارمة..
تنفس معظمنا الصعداء وكأن كابوساً ثقيلاً قد انزاح عنا وإستيقظنا فى الوقت المناسب
وراحوا يشكروننى لأنى خلصتهم منه بطريقة ذكية ومبتكرة وهى “كيف تقضى على متحذلقاً بمنتهى الغباء