الدكتورة “هلا رشيد أمون” لصوت الخليج : صناعة الحياة أوْلى من صناعة الموت
إعداد الحوار :
عبدالعزيز خريبط
الدكتورة هلا رشيد أمون ، مواليد مدينة طرابلس اللبنانية ، أستاذة متفرغة في الجامعة اللبنانية في كلية الآداب والعلوم الإنسانية , قسم الفلسفة . حائزة على شهادة الدكتوراه في الفلسفة من الجامعة اللبنانية . باحثة وكاتبة , صدر لها عدة مؤلفات في ميادين معرفية شتى , أبرزها : منتخبات فلسفية (نصوص مترجمة) , معجم تقويم اللغة وتخليصها من الأخطاء الشائعة , متاهات العنف الديني والسياسي , تاريخ الفلسفة اليونانية (تحقيق), تاريخ الفلسفة الأوروبية في العصر الوسيط (تحقيق) , ورحلة العنف المقدس من الوهابية إلى الدولة الإسلامية ..
التقت “صوت الخليج” بالدكتورة هلا رشيد أمون ، وأجرت معها حواراً طرحت من خلاله بعض الأسئلة ، لاستيضاح رأيها وموقفها من مجمل ما يحدث في عالمنا العربي ، ولا سيما فيما يتعلق بصميم الأزمة الدينية والسياسية والأمنية الخانقة التي يعيشها العالم العربي ، خاصة بعد اندلاع ما يسمّى ” الربيع العربي” في بعض دوله ، وما نتج عنه من ظهورٍ لتنظيماتٍ اسلاموية – سُنية وشيعية – تتخذ من العنف والتطرف والوحشية والدموية سبيلاً لتحقيق مشروعها، ومن اتساعٍ لدائرة الموت والفوضى والخراب والدمار ، نتيجة تأجيج العصبيات الطائفية والمذهبية ، القائم على استغلال النصوص والاجتهادات الدينية والفتاوى الفقهية .
بدايةً ما الذي جذبك إلى التخصص في دراسة الفلسفة ؟
لا اعرف من الأسباب سوى إنني أثناء دراستي الفلسفة في الصفوف الثانوية ، استهوتني كثيرا الطريقة التي تتناول بها مادةُ الفلسفة ، الموضوعات والمسائل والأسئلة الشائكة التي تطرحها عن الله والحياة والموت وما بعد الموت والوجود واﻹيمان والزمان والمكان والكون والفساد ، وراقتني كيفية إثارتها الإشكاليات العقلية التي قد تبدو للإنسان العادي ، على إنها واضحة بذاتها ومفهومة ولا تحتاج إلى بحث ونقاش ، فيما هي في الحقيقة شديدة الغموض والالتباس ، وتحتاج إلى الكثير من التعقل والتأمل والتفكير .
وقد اكتشفت أثناء تدريسي الفلسفة في الجامعة اللبنانية ، أن دراسة الفلسفة ( محبة الحكمة ) تتطلب مواهب وملكات عقلية ونفسية خاصة ، واستعدادات شخصية مميزة ، قد لا تتوافر عند كل الناس ، لعل أهمها الشجاعة والجرأة في التفكير والنقاش وطرح الأسئلة ، والقدرة على قبول الرأي المختلف ، والشغف المعرفي والرغبة في مطاردة الحقيقة التي تأبى الوقوع في أفخاخ الإجابات النهائية واليقينية التي لا تحتمل الشك أو النقاش .
ما هو برأيك دور الكاتب او المثقف في هذه الأيام ؟
برأيي المتواضع ، لم يعد بإمكان المثقف إلا أن يكون مثقفاً عضوياً ومنخرطاً في قضايا مجتمعه وأزماته ، بمعنى ان لا يكتفي بأن يكون محاضراً يعرض تاريخ النظريات والأفكار في قاعات التدريس ، بل عليه أن يكون حالةً تنويرية ، والناطق والمعبّر عن هموم مجتمعه وبيئته ، والمدافع عن قيم الحق والعدالة والمساواة والحرية التي يحلو للسلطة السياسية أن تنتهكها عادةً ، والرافض للظلم والقهر ومصادرة الحقوق وكل ما من شأنه أن يسيء للكرامة الإنسانية . والكاتب أو المثقف الذي يرضى بأن يكون واحداً من ” دعاة المصالح” ، والذي ينأى بنفسه عمّا يشغل الرأي العام من قضايا وأزمات ومآزق ، ويلتزم الصمت حيال القضايا الأخلاقية الكبرى ، فلا يدلي برأيٍ ، ولا يتخذ موقفاً مما يدور حوله ، خشية إغضاب أصحاب المصلحة الذين يسخّر كل معارفه وعلومه في خدمتهم ، وطمعاً بنيله بعض المكاسب والمواقع والمناصب ، فهذا لا يستحق اسم مثقف ، بل هو عبء على الفكر والثقافة والمجتمع الذي يعيش فيه .
يشعر المتابع لكتاباتك ، أن هناك علاقة مميزة جداً تربطك بمدينتك طرابلس التي تصفينها بأنها مدينةً منكوبة . هل يمكننا أن نفهم سرّ هذه العلاقة ، وحرصك الدائم على إظهار مظلوميتها ؟
بالفعل لقد كرّست جزءاً كبيراً من كتاباتي لتسليط الضوء على ما يعانيه أبناء العاصمة الثانية في لبنان ، من قهر وترك وظلم وغبنٍ وبطالة وفقر وصل إلى اخطر مستوياته ، بفضل السياسات الخاطئة التي ينتهجها ممثلوها في السلطة السياسية . ذلك أنه لعدة أسباب ، تُركت طرابلس لعدة عقود ، عرضةً للتهميش والحرمان وضياع الحقوق ، مما جعلها تخسر الكثير من مقوّماتها الاقتصادية والسياحية ، وتضيّع الكثير من فرص النهوض والتنمية والازدهار ، بعدما تم تعطيل مرافقها الحيوية بفعل الصراعات المستمرة بين زعمائها ومرجعياتها السياسية على المواقع والمناصب والسلطة . وفي الانتخابات البلدية التي جرت مؤخراً ، أرسل أبناء المدينة رسالةً واضحة إلى هذه المرجعيات ، مفادها أننا لم نعُد نثق بوعودكم وعهودكم ، وقد سئمنا إهمالكم لنا واستخفافكم بنا، وتعاطيكم معنا على أننا مجرد أرقام في صندوق الاقتراع . وقد كانت نتائج هذه الانتخابات مدوّية ومفاجئة للكثيرين ، لأنها أسقطت بالضربة القاضية ، التحالف الانتخابي العريض الذي ضمّ كل القوى السياسية التقليدية في المدينة ، لمصلحة زعامةٍ جديدة يأملون أن ترفع عنهم بعض ما لحقهم من ظلم تاريخي .
تضعين دائماً بوستات على صفحتك على “الفايسبوك” ، هل كنت تتوقعين أن تشدّك مواقع التواصل الاجتماعي أكثر من الوسائل التقليدية ؟
لا نستطيع أن ننكر أهمية مواقع التواصل الاجتماعي في جدلية التأثّر والتأثير في عالمنا الحالي الذي يوصف بأنه بات ” قرية صغيرة ” . فهي تشكل نافذة تصل المرء بالعالم الخارجي الذي يعجّ بالأحداث المتلاحقة ، أو وسيلة إعلامية مجانية تسمح لكل إنسان حسب قدراته وإمكاناته وحاجاته ، بممارسة فعل النقد الاجتماعي والسياسي والثقافي ، عبر الإدلاء بمواقفه وآرائه وتعليقاته عمّا يحصل حوله . ولا ننسى أن الإقبال على قراءة الكتب والمقالات التحليلية الطويلة ، بات ضعيفاً في العالم العربي ، فالناس الملتصقة بهواتفها الذكية بشكل يثير الدهشة والاستغراب ، باتت تفضّل الأخبار السريعة ، والمضامين القصيرة التي تعبر بإيجاز عن فكرة او موقف او رأي . ورغم أنني أكتب بعض الأفكار على “الفيسبوك” ، وخاصةً عندما انفعل أو أغضب بشدٍة نتيجة حدثٍ مؤلم أو تصريح مستفز ، إلا أنني أواصل في نفس الوقت ، كتابة المقالات التي يتم نشرها في الجرائد الورقية أو عبر المواقع الالكترونية .
من بين المقالات العديدة التي تكتبينها ، ما هي المقالة التي تعتبرينها الأقرب إلى عقلك ؟
هناك العديد من المقالات التي كتبتها ، لها موقع خاص في نفسي ، ولكنني أعتقد أن مقالة “فلسفة الموت في الثقافة العربية ” هي الأقرب إلى عقلي ، وقد تناولت فيها من زاوية التحليل الفلسفي العميق ، كيفية تعاطي الثقافة العربية والإسلامية مع فكرة الموت ، وكيف نجح بعض أصحاب الأيديولوجيات الدينية والوثوقية ، في تشويه صورة الموت ، عبر إعطائه صبغة وأبعاداً مقدسة ، كي يستغلوها لاحقاً في تحقيق مصالح سياسية وسلطوية ، وذلك عبر تشجيع الشباب المسلم على الإقدام على الموت المجاني او العبثي أو الانتحار أو تفجير أنفسهم ، بعد إيهامهم بأن قتل الأبرياء واستهداف الآمنين ، فيهما مرضاة وتقرباً إلى الله ، وخدمة للدين والعقيدة . وأنا أتمنى أن يأتي اليوم الذي يقتنع فيه الشباب المسلم في كل مكان ، ان صناعة الحياة أوْلى من صناعة الموت ومن إيجاد المبررات وتعبيد الطريق للقتل والإنقتال .
هل هناك “ضمائر صُنعت في تايوان” ؟!
هذه العبارة استخدمتها في إحدى بوستاتي على صفحة الفيسبوك للإشارة إلى ازدواجية المعايير والأحكام القيمية والأخلاقية السائدة في لبنان ، نتيجة الانقسام السياسي العمودي بين أبنائه ، والاختلاف الجذري في التعاطي والتفاعل مع ما يحدث في سوريا من تهجير وتجويع وإبادة جماعية على يد الحاكم الطاغية ، ولا سيما بعد تورط “حزب الله” في “المقتلة السورية ” عبر إرساله مقاتليه للموت هناك ، تحت شعار تضليلي يسمّى ” الواجب الجهادي”، تنفيذاً لأجندةٍ وأوامر وتكليفٍ شرعي إيراني ، وتحت راياتٍ مذهبية محضة . فقد أصبح البعض من الجمهور اللبناني ، ولاسيما المؤيد لمشروع “حزب الله” ، غير مبالٍ بالآم ونكبات وأوجاع الشعب السوري ، والمصائب المتتالية التي تنزل به قتلاً وتجويعاً وتهجيراً . ومع ذلك قد تنتفض مشاعر وعواطف نفس هذا الجمهور لحدثٍ بسيط مقارنةً بالمجازر التي تقع في سوريا . ولذلك فقد استخدمتُ هذا التعبير استنكاراً من جانبي ، لقدرة الأيديولوجيا العمياء على قتل المشاعر والأحاسيس ، وعلى إماتة الضمائر الإنسانية ، لدرجة انها تجعلها غير قادرة على التفاعل أو التعاطف مع مظلومية الأبرياء ومآسيهم ؟!
صدر لك كتابين مهمّين هما : كتاب متاهات العنف الديني والسياسي ، وكتاب داعش : رحلة العنف المقدّس ، هل تحدثيننا عن هذه التجربة في التأليف ؟
الحقيقة أن أول مقالة كتبتها كانت في عام ٢٠٠٧ عن تنظيم ” فتح الإسلام” صنيعة النظام السوري ، الذي برز فجأة في مخيم ” نهر البارد” القريب من مدينة طرابلس ، والذي قام بأعمال إرهابية صدمت الرأي العام اللبناني . وبعدها كرّت سُبحة المقالات الصحافية التي تناولت بالتحليل والنقد والتشريح ، الحركات الاسلاموية السلفية والأصولية والجهادية والعنفية ، والعديد من الأزمات الفكرية والدينية والسياسية التي يمرّ بها لبنان والعالم العربي . وقد نُشرت هذه المقالات على التوالي في عدة صحف محلية . ثم نصحني أحد الأصدقاء أن أقوم بجمعها في كتاب واحد لعدم ارتباط معظمها ، بحدث آني او عابر ، وهكذا وُلد كتاب ” متاهات العنف الديني والسياسي” .
أما كتاب ” داعش” ، فقد وضعته في عام ٢٠١٤ مباشرةً بعد إعلان “ابي بكر البغدادي” لما يسمّى “الدولة الإسلامية” . وقد قدّمت هذا الكتاب الذي يُعتبر أول كتاب تناول ظاهرة داعش ، للقارئ العربي المتعطّش للمعرفة ، والذي باغته ظهور هذا التنظيم العنفي ، فطرح الكثير من علامات التعجب والاستفهام حول طبيعته وأهدافه ورموزه ومصادره الفكرية وتأصيلاته الفقهية والجهات التي تموله وتدعمه . ولعل أكثر ما صدم الرأي العربي والعالمي ، هو حجم العنف والغلو والهمجية والوحشية ، الذي مارسه هذا التنظيم أمام عدسات الكاميرا ، ما جعله شريكاً فعلياً للنظام السوري وللميليشيات الشيعية المدعومة من إيران ، في قتل السوريين وتهجيرهم وخنق الثورة السورية التي رفعت شعار المطالبة بالحرية والعدالة والكرامة ، فتآمر على ذبحها الشرق والغرب ، القريب والبعيد ، الصديق والعدو ، إلى أن غرق السوريون في دمائهم ، وخسروا وطنهم الذي صار ساحة مستباحة يعبث فيها كل اللاعبين المحليين والإقليميين والدوليين ، وما تزال المأساة والمجزرة والمذبحة مستمرة !
هل تعتقدين أن تجربة ما يسمى ” الإسلام السياسي” قد نجحت منذ نشأتها ، في تحقيق أي انجاز اجتماعي أو اقتصادي أو سياسي في المجتمعات التي خرجت منها ؟
تجارب الإسلام السياسي متعددة ومتنوعة في أصولها وجذورها ونشأتها وأهدافها ووسائلها ، ولكن قد يكون الجامع المشترك بينها هو انها لجأت إلى انتهاج الأساليب العنفية والترهيبية بدلاً من الوسائل السلمية المشروعة ، لتحقيق التغيير المنشود ، واعتمدت الاستقطاب الطائفي قبل الايديولوجي للتوغل في عقول الشباب المحبط واليائس ، عبر شعارات قد تبدو دينية وشرعية ونبيلة ، مثل الجهاد وإقامة الدولة الإسلامية واسترجاع الأمجاد الزائلة وتطبيق الشريعة الإسلامية … وقد أثبتت الفوضى غير الخلاقة التي تدب في سوريا والعراق واليمن وليبيا ولبنان ، أن تنظيمات الإسلام السياسي بفرعيها السُني والشيعي ، قد تحولت إلى أداة هدم وتقويض وتدمير وتجيش طائفي ومذهبي ، بيد قوى إقليمية ودولية ، مما جعلها تفقد الكثير من مصداقيتها ومشروعيتها حتى في صفوف المسلمين المتحمسين لمقولاتها وشعاراتها ، الذين اكتشفوا ان اغلب هذه التنظيمات باتت وسائل وقنوات لاستجلاب التدخل الأجنبي إلى بلادنا ، ولتسهيل سيطرته عليها ونهب خيراتها وثرواتها والإبقاء على تخلفها وشرذمتها عن طريق إبقاء جذوة الصراعات الدينية مشتعلة. فيها . قد تنتهي وظيفة ودور جماعات “الإسلام السياسي” على الأرض ، فقط عندما يتوقف جمهور المسلمين عن الانجرار بشكل عاطفي وغير عقلاني ، وراء خطابها وطروحاتها وشعاراتها ومقولاتها ، ويقتنع أن الغرب لن يسمح لأي تيار ديني إلا بأن يكون أداة تخريب وتفريق وشرذمة وقتل وتطرّف ، ولن يسمح لأي تنظيم إسلامي بالوصول إلى سدة الحكم في أي بلد ، إلا بشروط القوى العظمى ورضاها وموافقتها ، وبعد أن تتأكد أن هذا التنظيم سيحمي مصالحها الحيوية ، شأنه في ذلك شأن الأنظمة السياسية القابضة على السلطة في العالم العربي .
لقد ختمت كتاب رحلة العنف المقدس ، بالسؤال التالي : ” بئر الإرهاب والتطرف ها هنا ، فهل يتمّ العمل على تجفيفه ؟ ” . بعد كل ما جرى ويجري من حولنا ، هل تعتقدين حقاً ، أن هناك خطوات جادة لتجفيف آبار الإرهاب والتعصب في الشرق الأوسط ؟
صحيح ، في خاتمة كتاب داعش ، قلتُ أن هذا الفكر المنحرف والشاذ الذي يستخدم الدين للقبض على السلطة والحكم ، والذي يغلّف غلّوه وعنفه وتطرّفه بأثواب القداسة والعصمة ، هو فكر يستعصي على الفناء أو الاستئصال . بل أن هذه المنظومة الفكرية والقيمية قادرة رغم كل المطاردات والملاحقات ، على الانبعاث من جديد ، تحت أسماء وشعارات جديدة . ويمكننا الجزم ان الأنظمة والحكومات الفاشلة والعاجزة في عالمنا العربي ، مسؤولة مسؤوليةً مباشرة عما وصلنا اليه من خراب وعنف ، فهي لم تعمل للقضاء على الأسباب والمبررات والبيئات الحاضنة التي ساهمت في تغذية خطاب العنف والتطرف ، لأن كل همّها كان مُنصبّاً بالدرجة الأولى ، على الاحتفاظ بالسلطة . وابرز ينابيع التطرّف تكمن أولاً في ان تراثنا الفقهي والفكري. والسياسي يحمل مخزوناً هائلاً من العنف المادي والرمزي الذي تقوم هذه التنظيمات على إحيائه وتوظيفه واستثماره في خطابها ومشروعها . ثانياً تقاعس الحكومات العربية والاسلامية على مدى عقود ، عن معالجة الأزمات الاجتماعية والاقتصادية والتربوية والسياسية ، وما أنتجته من فقر وجهل وأُمية وإحباط ويأس وطبقية وغياب للعدالة الاجتماعية وسيادة منطق الاستبداد وإقصاء الخصوم السياسيين ومصادرة الحريات ومنع تداول السلطة السياسية بشكل سلمي وديمقراطي وتفشّي الفساد وسرقة المال العام وهدر الثروات الوطنية بعد احتكارها من قِبَل القلة القليلة من الحكام وأزلامهم وحاشيتهم ومحاسيبهم ، وترك الأكثرية من المواطنين تعاني ذلّ الحرمان والحاجة والعوز والقهر وانسداد الأفق وانقطاع الأمل من حدوث أي تغيير أو إصلاح . فإذا لم يأخذ مَن تبقّى من حكّام العرب ، العبرة والعظة مما يجري في العالمين العربي والإسلامي ، فإن بئر الإحباط واليأس والقهر سوف تظل تضخّ المزيد من التنظيمات الأصولية والراديكالية التي تعِد الناس بالفردوس المفقود ، والتي تنتعش وتزدهر في صفوف الفقراء والمهمّشين والغاضبين والمستعدين لفعل أي شيء للانتقام من الحكّام الظالمين الذين لا يحكمون بما أنزل الله . وعلى كل حال ، يستلزم العالم العربي وقتاً طويلا جداً ، للخروج من النفق المظلم الذي دخل فيه ، وللتخلص من الآثار والتداعيات الخطيرة للأزمات والمآزق المتعددة الجوانب التي تعصف به ويتخبط فيها .
ما رأيك في مقولة ” الإرهاب لا دين له ” ؟
صحيح ، أن الإرهاب لا دين له ، إذا كان المقصود بهذا المصطلح ، استخدام العنف المفرط أو القوة المادية المسلّحة ، بشكل متعمَد ضد الآخرين ، مما يكون سبباً في ترويع الآمنين او جرحهم أو قتلهم أو التسبّب بخسائر مادية ، بغية تحقيق أهداف لا تجيزها القوانين أو الأخلاق . وهذا النوع من الأعمال العنفية قد مارسته عبر التاريخ الإنساني ، الدول والحكومات وكل الجماعات الدينية وغير الدينية . ولكن الغريب أن صفة الإرهاب وما تعنيه من عنف وقتل ودموية وتعصب وتطرف وغلو ، لا تطلق إلا على المسلمين ، وعلى أهل السنّة منهم بوجه خاص ، وقد تمارس جماعات دينية ومدنية وعسكرية أخرى ، نفس الأفعال الوحشية والغرائزية والعنفية ، ومع ذلك توصف ارتكاباتهم بأوصاف أخرى ، مثل دفاع عن النفس ، مقاومة ، حماية المقدسات ، تحرير الأرض المحتلة … وابرز مثال على ذلك هو إرهاب الدولة المتمثّل بالجرائم الإسرائيلية في فلسطين ، وجرائم الولايات المتحدة في العراق ، وجرائم النظام السوري وإيران وروسيا في سوريا ، فهذه كلها أفعال إرهابية موصوفة وموثّقة ، ومع ذلك تبقى صفة الارهاب ، من نصيب الجماعات الاسلاموية . والحقيقة أن مصطلح الإرهاب قد أصبح مصطلحاً ضبابياً وفضفاضاً ، بل أصبح سلاحاً فتّاكاً وجاهزاً تستخدمه بعض الدول ( ولا سيما الولايات المتحدة ) والحكومات في وجه خصومها – من الجماعات والتنظيمات والأنظمة – لتشويه صورتهم وضرب سمعتهم ، وبالتالي إيجاد المبررات والأعذار لملاحقتهم ومطاردتهم ومحاربتهم بهدف التخلص منهم ، بغية تحقيق مصالحها السياسية ، عبر السيطرة على بعض الدول ، والتحكم بسياستها وقرارها ، والاستيلاء على خيراتها ونهب ثرواتها الطبيعية ، تحت شعار ” مكافحة الإرهاب ” .
في نهاية هذا الحوار ، هل تودّ الدكتورة هلا رشيد أمون ، أن تقول كلمة أخيرة ؟
بالطبع أود أن أشكرك على هذا الحوار الممتع ، وأن أدعو الناس إلى الإقبال على دراسة الفلسفة ، لأنها الميدان الوحيد الذي يسلّح الدارس أو الباحث ، بالأدوات والمناهج النقدية والتحليلية التي تسعفه أثناء قراءة أي نصّ من النصوص ، في القيام بعمليات الحفر والتنقيب والتفكيك ، التي تحرره من الضغوط والاكراهات والأفكار الجاهزة والأحكام المسبقة التي تقدمها له الأيديولوجيات المغلقة والمنظومات الفكرية الجامدة والقوالب الثقافية النهائية التي يدّعي أصحابها احتكار الصواب والحقيقة ، ويوهمون الناس بأنه خارج أسوار خطابهم الحديدي ومقولاتهم ومصطلحاتهم ، لا يوجد إلا الخطأ والباطل والضلال . وما أحوج الإنسان في العالمين العربي والإسلامي الغارقين في دوّامة العنف والتطرف ، وشرنقة التخلف والجمود ، إلى إعادة النظر في ارثهما وتاريخهما ونظرة أبنائهما الى الحياة والموت والعقل والدين والإيمان والعلم والمجتمع ، من منطلقاتٍ وأسسٍ عقلية وفلسفية ، تعيد بناء الشخصية والعقل العربي والإسلامي ، وتعيد إنتاج ثقافةٍ تُعلي من شأن العقل والعلم ، وتحاكم الخرافة وتدين اللامعقول التي يتسلل الفكر الظلامي من خلالهما ، إلى كل زاوية من زوايا حياتنا .