“الغرفة المغلقة ..الجزء الأول” … د يونان وليم
شئ ما بداخلى أشعر به يدفعنى دفعاً نحو إكتشاف ما بداخل تلك الغرفة بالطابق العلوى والتى لا أملك لبابها مفتاحاً؛ لكنى حتماً سأجد طريقة ما لفتحها ..
لطالما كنت أشعر بهوس نحو إكتشاف المجهول ..
أى مجهول .. كاسراً جميع التحذيرات والعهود التى كنت أقطعها لوالدتى بألا أفعل كذا أو كذا وألا أذهب إلى هذا المكان أو ذاك ..
إياك أن تذهب إلى ذلك البيت المهجور لأنه مسكون بالأرواح الشريرة ..
حسناً لن أذهب ..
أتعدنى ؟! ..
نعم ..ولكنى أذهب فى النهاية ..
إياك وتلك الحديقة التى يُسمع فيها صوت موسيقى صاخبة رغم غياب أصحابها منذ عقود ..
حسناً لن أذهب..ولكنى أذهب دائماً ..
لا تتحدث إلى ذلك العجوز المريب فالجميع يعلم أنه ساحر شرير يحيل من يقترب منه إلى ضفدع أو خنزير برى ..
فأتحدث معه وأعود آدمياً بريئاً من أى لعنات أو سخطات ..
كانت جميع تلك التحذيرات المخيفة تمنح مزيد من الإثارة ومزيداً من الرغبة فى إكتشاف كنية الأشياء التى يخشاها الجميع ..
حاولت الهرب من ذلك الشعور لكن دون جدوى ..
فهناك متعة خاصة فى إكتشاف المجهول لا يجربها إلا من هو مصاب بهذا الداء ..
توفى والدى وأنا فى العاشرة من عمرى وكنت أزور قبره من حين لآخر أدعو له وأتحدث معه كأننى أراه وكأنه يستمع إلىّ بإنصات كما كان يفعل دائماً ؛ لكنى كنت أفضل زيارته مساءاً بعد أن يرحل أهالى المتوفين المحيطين بالقبر الذين يصنعون ضوضاءاً تكفى لإيقاظ الموتى من قبورهم ..
لم أكن أخشى الظلام الدامس ولا هدوء القبور بالليل ولم يكن يخيفنى صوت الغربان أو البوم أو صوت أجنحة الخفافيش الطائرة حولى العائدة إلى أوكارها ؛ فأنا على يقين تام بأن الموتى لن يقوموا ثانية من قبورهم إلا عندما يأذن خالقهم وأن أرواحهم الآن فى مكان وبُعد زمنى آخر لن يعودوا منه إن أردنا أو إن هم أرادوا ..
بدأ الأمر بعد أن قام أمين المركز الطبى بتسليمى الإستراحة الخاصة بسكن طبيب المركز والتى كانت تبعد حوالى مائتى متر تقريباً من المركز والتى كانت ذات طابع خاص ممتع لكنه مخيف نوعاً ما ؛ مكان منعزل هدوئه فائق للحد تحيط به مزروعات القصب ؛ هواء القرية العليل وصوت الطيور المغردة وغياب صوت المحركات المزعج يعيد للحياة بدائيتها وبساطتها وروعة أسلوبها ..
أنا أعشق الهدوء بشدة بالأخص ذلك الذى تشاركه بعض الضوضاء البسيطة من حين لآخر ..
كان الإستراحة ذات بابين أمامى وخلفى؛ الباب الخلفى مغلق بإحكام بأقفال صدئة ؛ يستحيل فتحه إلا بكسر الباب الخشبى ؛ والأمامى يفتح إلى الخارج مقابلاً لمئات الأفدنة من مزروعات القصب التى يتعدى ارتفاعها الثلاث أمتار مما يحجب رؤية أى شئ بعدها فيبعث فى النفس شعوراً بعدم الراحة إلى حد كبير ..
مرت بضعة أيام وكل شئ على مايرام ؛ فأهل البلدة طيبون وكرماء إلى حد مذهل كعادة القرويين البسطاء فى أسوان الذين لم تلوثهم بعد عادات المدينة بكل صخبها وإزدحامها وإختلاط الجيد بالردئ فيها ..
بدأت أسمع عن قصص القتلى الذين تكتشف الشرطة جثثهم وسط القصب بالصدفة أثناء فترة الحصاد من كل عام ما بين شهرى سبتمبر وأكتوبر ؛ فكانت أخبار هؤلاء تتصدر الصحف المحلية ؛ فتلك قصة عن جثتين لرجل وإمرأة يُشتبه أنها لخائنة وعشيقها ؛ وتلك جثة لرجل بالغ يُعتقد أنه قتيل لثأر ؛ وأخرى لطفل مختطف طلباً لفدية على الأرجح ..وهكذا ؛ لكن الغريب أن أغلب تلك الجرائم مقيدة تحت بند “القاتل مجهول ” ..ولم يُستدل على بيانات أغلب الجثث من سجل بلاغات المفقودين بالمحافظة لذا فهى على الأرجح جثث لقتلى من أماكن بعيدة آثر من قتلوهم إلقاء الجثث فى أبعد مكان ممكن ألا وهو ” القصب” بالقرب من استراحتى البائسة تحديداً ..
لا أنكر أننى أمتلك_بلا حسد_ حظاً عاثراً يجعلنى أصاب بعدوى من مريض درن مر على حدود القرية على بٌعد عشرة أميال وسعل سعلة خفيفة كالفحيح ، ذات الحظ الذى جعل سيارة الأجرة تنقلب بى فور أن تلقيت خبر نجاحى بالبكالوريوس ..
لكن لا بأس فأنا لا أعتمد كثيراً على الحظ والطالع سواء كان منخفضاً أو طالعاً ..
بالمناسبة عندما تفقدت الإستراحة _مع الأمين_والتى كانت مكونة من طابقين ذات درج داخلى يصل الطابقين ببعضهما ؛ الطابق الأول به غرفة معيشة متوسطة الحجم وغرفة نوم بسرير كبير ومقابلها مطبخ صغير ؛ أما فى الطابق العلوى فكانت هناك دورة مياه صغيرة فى نهاية الدرج وعلى اليمين مباشرة غرفة مغلقة ..
فأشار إليها الرجل قائلاً: “وتلك غرفة بها أسرة قديمة كانت للمرضى عندما كان المركز الطبى يعمل سابقاً كمشفى محلى فى وقت الحرب ”
_حرب !! ..أى حرب ؟!
_ لا داعى لأن تفكر بها من الأساس ، يمكن اعتبارها غير موجودة ..
_ولما هى مغلقة بأقفال هكذا ؟
_قلت لك لا تقلق ..قال فى حدة
_ولكن ..
_شششششش ..كفى ..
لا نريد إيقاظ أحدهم ..فالليل قد حل .. أرجوك ..
يُتبع