د.جنان الحربي :أبحاث علمية تثبت فاعلية يرقات الذباب الأخضر في علاج الجروح بوضع 10 ـ 100 يرقة معقمة على كل 1
تؤكد الأستاذ المساعد بقسم العلوم في كلية التربية الأساسية بـ«التطبيقي» والباحثة في علم الحشرات د.جنان الحربي ان لـ «الذبابة فوائد عديدة»، مستشهدة بالحديث النبوي الشريف المتفق على صحته والوارد في صحيح البخاري. ولفتت إلى أن ابحاثا علمية أكدت فاعلية يرقات الذباب الأخضر في علاج الجروح والغرغرينا، مشيرة الى انه في المستقبل ستكون اكياس اليرقات المعقمة هي البديل في علاج التقرحات وجروح السكر المستعصية. د. جنان تشرح رؤيتها في هذه المقالة:
نحاول التخلص من الذباب كونه ينقل الميكروبات ولكنه في الحقيقة يعتبر وسيلة علاج للإنسان ليصدق المثل القائل «رب ضارة نافعة».
هناك آلاف الأنواع من الذباب المنتشرة في جميع أنحاء العالم ومنها ذباب المنزل الذي يعتبر من أكثر الحشرات إزعاجا للإنسان بسبب طيرانها وحركتها السريعة وحومها المستمر حول غذائه، فهو كذلك يتجمع على كل شيء بغض النظر عن النظافة، يعيش الذباب عادة في الحاويات والقمامة، فبمجرد ان يحط على الأكل او الأسطح المتسخة، يبدأ بالتخلص من حمولته المكونة من القاذورات والجراثيم المتعلقة على أرجله لكي ينظف نفسه، ولذلك يعتبر معظم الذباب من الحشرات الناقلة للجراثيم التي تسبب أمراضا معدية وخطيرة مثل الكوليرا والتيفوئيد وأمراض الجهاز الهضمي والالتهابات الجلدية وكذلك الدوسنتاريا.
بالرغم من أضرار الذباب المخيفة إلا ان لهذه الحشرة فوائد عدة، ونستشهد بالحديث النبوي الشريف الذي يعتبر من أشهر أمثلة الإعجاز الطبي مصداقا لحديث أبي هريرة رضي الله عنه، ان النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا وقع الذباب في شراب أحدكم فليغمسه ثم لينزعه، فإن في إحدى جناحيه داء والأخرى شفاء» رواه البخاري 3320. وقد أثبت علماء الحشرات البيطرية في دراسات عديدة بأن الجناح الأيمن للذبابة يحمل أعدادا كبيرة وأنواعا مختلفة من البكتيريا الموجبة التي تتحمل درجات الحرارة العليا والإشعاع والتأثيرات الكيميائية ومقاومة للمضادات الحيوية مقارنة بالجناح الأيسر.
وأعتقد ومن خبرتي البحثية على الحشرات، عند نزول الذبابة في الشراب تنزل الجناح الأثقل بالجراثيم فيه وهو المفترض ويظل الجناح الأخف والأقل حمولة في الأعلى. وبما أنه يعيش بهذا الكم الهائل من الجراثيم فمن الطبيعي ان يكتسب مناعة قوية تعزز بإفراز أجسام مضادة للميكروبات. وهنا تكمن الفائدة من غمس الذبابة في الشراب. وهذه المعلومة أثبتت علميا من خلال العديد من المتخصصين في الحشرات ان الجراثيم التي تنزلها الذبابة في الشراب تقل تدريجيا مع عدد المرات التي نقوم بها بغمس نفس الذبابة.
كثيرا ما نسمع المثل الشائع «لن أدع الذباب الأزرق يعرف لك طريق جرة»، أو «ما راح أخلي الذبان الأزرق يعرفلك طريق».
منذ سنوات بدأت بعض المراكز العلاجية العالمية في استخدام انواع من الذباب لعلاج الجروح المستعصية والمزمنة ومنها الذباب الأخضر «لوسيليا سيريكاتا» والذباب الأزرق المعروف بـ«العنتر»، «كاليفورنيا فوميتوريا»، ينتمي هذا النوع من الذباب الى عائلة الخوتعيات. ويطلق على الذبابتين عادة اسم «ذباب الجيف» او «ذباب الجثث» لأن الغذاء المفضل لدى يرقاتهما بجميع الأعمار هو اللحوم والجثث المتعفنة والحيوانات النافقة والبول والبراز. اما الذبابة البالغة فهي تتغذى عادة على رحيق الأزهار.
هناك العديد من الأبحاث العلمية التي تؤكد فعالية يرقات الذباب الأخضر (maggot) في علاج الجروح.
يبلغ طول جسم الذبابة الخضراء البالغة 10- 14 ملم وعرضها 8 – 10 ملم. وتمتاز الحشرة باللون الميتالك الأخضر المزرق الذهبي المزخرف باللون الأسود. يوجد على منطقة الصدر ثلاثة خطوط طولية، وجناحاها شفافان متعرقان بعروق سوداء اللون وفمها لونه أصفر وتغطي منطقة الظهر شعيرات دقيقة.
تضع الأنثى في العادة 10 أكياس من البيض، يحتوي الواحد منهم على 200 بيضة، يفقس البيض وتخرج اليرقات الأولية بعد 10 أيام تقريبا على حسبة درجة الحرارة والرطوبة. تمر اليرقات في ثلاث مراحل تطورية وفي المرحلة الثالثة تنتقل اليرقات زاحفة لتختبئ بين حبيبات الرمل ثم تتحول الى الشرنقة. تحتاج عادة الشرنقة الى 10 أيام لتتحول الى حشرة بالغة قادرة على الطيران.
العلاج الحديث التجديدي باليرقات في الحقيقة كان موجودا منذ القدم. أول من لاحظ فائدة يرقات الذباب الأخضر والأزرق في علاج الجروح هو أبو الجراحين الجراح الفرنسي أمبرواز باريه أثناء حرب 1510 وجاء بعده الفرنسيون عام 1829 وبعدها بدأ الأميركان في استخدام اليرقات في علاج الغرغرينا. وتوقف استخدام اليرقات بعد اكتشاف البنسلين، ولكن عاد علماء الحشرات بإنشاء أول مزرعة ليرقات الذباب في بريطانيا عام 1995 التي قامت بتصنيع وبيع اليرقات المعقمة للمختصين والمراكز الصحية. وأثبت أحد الأطباء في مستشفى بيتيجهايم بيسينجن الألمانية أن العلاج في يرقات الذباب المعقمة يتميز بفعالية جيدة في تسريع التئام الجروح وتنظيفها. وتعد شركة بيومد الألمانية التي تأسست في عام 2002 هي الأولى المتخصصة في تصنيع أنسجة خاصة مشبعة بالمواد المستخلصة من يرقات الحشرات الحية المعقمة لكي تستعمل كمضادات للجروح.
وتتمثل طريقة العلاج بوضع 10- 100 يرقة معقمة على كل 1 سم من الجرح وتثبت بشاش ليمنعها من الهروب. يعتمد عدد اليرقات المستخدمة في العلاج على حسب مساحة وعمق الجرح وعدد الجلسات. تبدأ اليرقات في تنظيف الجرح عن طريق إفراز إنزيمات مذيبة مثل Collagenase التي تذيب النسيج الميت لكي تستطيع أن تلتهمه وتتغذى عليه. وبعد الانتهاء من التنظيف تبدأ عملية التطهير عن طريق إفراز الأمونيا التي بدورها ترفع من قلوية الجرح فيمنع من تكاثر البكتيريا الموجودة. تلتهم اليرقات بعد ذلك البكتيريا الموجودة على الجرح المفتوح وتقتلها بمضادات ميكروبية تفرز في أمعائها. وأخيرا تقوم اليرقات بتحفيز الجهاز المناعي للإنسان عن طريق تنشيط خلايا الفايبروبلاست الصانعة للأنسجة بواسطة محفزات نمو لتكوين نسيج جديد الذي يعمل في العادة على تسكير الجرح العنيد واندماله.
وبسبب اشمئزاز بعض المصابين من حركة الدود أو اليرقات على أجسامهم الذي يشعرهم بالغثيان، قامت إحدى الشركات الطبية الألمانية بتصنيع بيوباق Biobag أو الأكياس الحيوية الشبيهة في التغليف لأكياس الشاي ولكنها تحتوي على يرقات حية.
تمت الموافقة على العلاج باليرقات رسميا من قبل هيئة الغذاء والدواء FDA في عام 2004 وكذلك من National Health Service. ونقلا عن اميل اونلاين 2019. أقر مشروع بدعم من الولايات المتحدة وهولندا لإقامة مختبرات تكنولوجية طبية ميدانية تقوم بإنتاج يرقات طبية آمنة على صحة الإنسان على أن تتواجد هذه المراكز في سورية وجنوب السودان. يعتبر هذا المشروع من أهم المشاريع الحديثة للعلاج باليرقات وهو مدعوم من Department for International Development في أميركا ومن بريطانيا.
ومن يدري قد تكون هذه الضمادات الجديدة وأكياس اليرقات المعقمة هي البديل في علاج التقرحات والقرح الناقبة وجروح السكري المستعصية في المستقبل طالما أثبتت فعاليتها وتم إنتاجها واستخدامها في العديد من الدول مثل المراكز العلاجية الموجودة في تركيا وكينيا وألمانيا وأميركا.
ومن الممكن على المدى البعيد أن يوفر العلاج باليرقات الكثير من المبالغ العلاجية الباهظة التي تتكبدها بعض الدول الفقيرة وتقلل كذلك من آلام ومعانات المصابين التي قد تكون مزمنة على مدى حياتهم أو خسارة البعض لأطرافهم. فهذا العلاج البسيط ممكن أن ينقذ أرواحا.