دانات أدبية … بقلم خولة سليقة
أسمع منذ زمن اسم “دانة” و قيل لي إن معناها حبة، و خصوا بها حبة اللؤلؤ. في المعاجم الدانة قذيفة المدفع، و ليسمح لي الأستاذ بدر البرغوث أن أعتبرها الأقرب إلى ما قرأته مجازياً، إذ كانت كل عبارة من كتابه تصيب هدفها بدقة متناهية، حتى لا تجد بعدها بديلاً لكلمة أو سبيلاً إلى تغيير موضعها.
كتاب دانات أدبية، فلسفة من وجهة نظر كاتبه بدر البرغوث، يشتمل على قصاصات أدبية و حكم هي خلاصة تجارب و مشاهدات أو محكيات، لكنها تطابق في معظمها ما نعيشه و نكابده. الحياة إذا عرفنا كيف نداريها لا تنتهي مشكلاتها أو همومها، لا تصبح بطعم حلو، لكنها تمرّ بأسرع مما نتخيل، تتفعل فيها العصارات الهاضمة لتطحن كل شوك.
كتاب من مئة و ثمانية و أربعين صفحة من الحجم المتوسط، صادر عن دار تقاسيم، و ليس العمل الأول للكاتب فقد صدر له: (الإعدام شوقا، مشاعر تحت الركام، دانات أدبية). لم يعمل الكاتب على تقسيمهفصولاً، بل اعتمد الروح الواحدة التي طغت على العبارات تفصل بينها فواصل صغيرة، في كل صفحةعبارتان تطولان قليلاً أو تقصران حتى تغدوا قبساً من قنديل الروح.
تنوعت الموضوعات المطروحة في الكتاب بين الحديث عن الأحلام، الصمت، التقليد، المجاملة، التأكيد على التفرد، الأثر الجميل، محاذير الكتابة، السرقات الأدبية، المحبطون و السلبيون، أهمية الكتابة، الاعتدال. و جاءت بعض العبارات لتقدم تعريفاً لأشياء مختلفة مثل: الفلسفة، الرجل النبيل، الغربة، الفطنة، النجاح، الذكاء، الكاتب المفلس، العدو الحقيقيّ، الصديق الحقيقيّ و غيرها كثير كثير.
سلّته التي حفلت بما لذ و طاب من فاكهة الكلام، أجمل ما فيها أنك تستطيع قراءتها على دفعات، كما ترتشف القهوة بأناة و لذّة أثناء ساعات النهار، لكنك تعود بعد انقطاع يحدوك الفضول لتعرف ماذا قال هذا الكاتب بعد؟ أي المواقف وضع فيها حتى تلمس ما قرأناه و أحسسناه؟ أتألم كما آلمتنا حقائق نعرفها حين واجهناها من جديد في حروفه؟ ركّز على بعض الموضوعات بتكرار الحديث عنها و لعلّها تأخذ حيزاً واضحاً من وجدانه، كموضوع لتقليد الذي وصفه بمقبرة الإبداع و مقبرة الكاتب في آن معاً، و كررها في غير موضع بأساليب عدة ليصنف التقليد من محاذير الكتابة التي أجملها في : الافتقار إلى الصدق، الافتقار إلى العمق، الافتقار إلىالإلهام، التقليد!
غاص في أعماق النفس البشرية باحثاً عن أسباب فشل الحب، محمّلاً المرأة و الرجل المسؤولية بالتساوي، ميّز أيضاً بين التقدم في العمر و النضج، أعادنا إلى أقوال الجدات و الحكم الشعبية الموروثة المتداولة مثل ” المزار القريب لا يشفي الغليل” فأعاد صياغته بأسلوبه:” دائماً نميل لأن نستلطف الغرباء لأننا لا نعرفهم جيداً” ، ” الغرباء غالباً ما يأسرون قلوب فتيات المدينة، فقط لأنهم غرباء”.
وافقناه في أمور و لنا في أخرى رأي آخر، يقول: “المرأة تجيد إخفاء كل شيء إلا الحبّ”، في الواقع المرأة تجيد حتى إخفاء الحب إن أرادت، تقسو على نفسها، تدوس على مشاعرها إن كلفها الأمر ذلك.
ثمة تأثير للنشأة و طبيعة الحياة في المجتمع الشرقي، تغرس في اللاوعي صورة وحش يبتلع المسرة،مستنقعاً يلوث المرء و الآخرين يدعونه حباً.
يعترض البعض على أننا تجاوزنا هذي المرحلة مقنعين أنفسهم بالخروج من عباءة الجاهلية، متناسين أن الثوب ليس خارجياً البتة إنما غلاف للقلب و الروح. لكنه يمنحها منزلتها الكبيرة إذ يقول: “إن لم تسكن قلب أنثى صادقة، فأنت لاتزال قابعاً في العراء”. يعيدني إلى صراع نيتشة مع الحياة التي حرمته قلب امرأة يربت على حزنه و يشعل شموع فرحه، فذاق العمر وحدة بلا نهاية.
تلاعب باللغة بحرفية :”أحياناً نحتاج إلى الصمت و أحياناً هو الذي يجتاحنا” صار طين الحروف يشكل كلمات متشابهة مختلفة، كذلك:” أن تكون لديك نظرة ثاقبة في الحياة، خير من أن تجد ثقباً صغيراً تنظر من خلاله فقط”، كما أبرز التضاد جمال أقواله:( ترسل- تأخذ)،(صمته، حديثه)، (قاسياً فتلين، غائباً فتعود).
قدم الكثير من الوصايا في مجالات عدة، أورد أحدها و قد أعجبني و استوقفني:” من يدخل قلبك بصدق،لن يخرج منه إلا بخطيئة كبرى”. ما الخطيئة التي ستكون تفاحة الخروج من الجنة؟ أي المعايير تطبق عليها لمعرفة فداحة الجرم أو اعتباره جنحة؟ على أي مقعد يجلس التسامح أثناء محاكمة الخطيئة؟ كثيرة هي الأفكار التي طوقتني، أحكمت الخناق عليّ… أتراني أخاف الخطيئة أم ضياع الجنة؟.