“ستأتيني رجلاً” قلقٌ قديمٌ جديد …للشاعرة خولة سامي سليقة
يحفل الأدب و كذلك السينما بقصص المراهقين الذين يغادرون منازل أسرهم، هرباً من ضغوطات معينة، و بقلة عند بعض المراهقات بسبب طريقة التربية و الضوابط المجتمعية التي تتحكم بحياة الأنثى.
فنرى المراهق يسأم أحياناً أوامر والديه، أو يضيق ذرعاً باعتباره تابعاً أو طفلاً، فيشقّ عصا الطاعة هادماً سوراً من حماية الأهل له، متمرداً على كل قانون يحجز حريته داخل المنزل أو خارجه.
و مسعود بطل رواية الأستاذ غانم البجيدي، المعنونة باسم” ستأتيني رجلاً “، شاب كغيره ممن تفور في عروقهم دماء ثورة يكاد يجهلون ارتباطها بفيزيولوجية أجسادهم، لا يطيقون توجيهاً من كبير و لا كلمةً من صغير، متسرعون ناريون، عنيفون، ردود أفعالهم
غير متناسبةٍ البتة مع الموقف الذي يحدث، ينظرون إلى أفكار الوالدين على أنها رجعية لا تلامس أفكارهم و لا خياراتهم. و إن يخفِ المراهق بعض ما يكنّه فلا ينطفه، إلا أنه يخرج عبر عينيه و نظراته المستنكرة لكل ما حوله.
الخطأ الذي ارتكبه مسعود لم يكن بسيطاً، لكن هاجس الذنب و الخوف من العقاب كانا بوابة هربه و الابتعاد عن أسرته، و مما مارسه الكاتب من تشويق و إثارة أنه لم يرصد لنا على الطرف الآخر ردود فعل الأسرة؛ أكانت تبحث عنه؟ هل عرف والده مكان إقامته عبر صديقه الضابط في ظل انعدام وسائل التواصل خلال الزمن الماضي؟ أيعقل أن تكون الأم مطمئنة و لاتلحّ في طلب البحث عنه، دون أن تعرف أحيّ هو أم ميت؟
كما أن قضية الهروب يكون الموت بعدها -أحياناً- أقل النتائج وطأة على النفس، إذا ما قورن بسقوط المراهق في حبال الرذيلة و أيدي من يحيلونه مجرماً، لصّاً محترفاً، مدمناً و .. ليأكل السجن سنيّ حياته، و تأكل الحسرات المستمرة قلوب أفراد أسرته. لذلك كان من حسن حظ مسعود أن طرق باب صديق وفيّ لأبيه، إذ صانه و حماه و أمّن له العمل في زمن كان فيه الخير كثيراً، كانت أكثر نفوس الناس لاتزال عامرة بالإيمان، قليلة التلوث، لا تعرف التنكر لصديقٍ أو قريب.
في العمل وجبة تاريخية دسمةٌ؛ من ماضٍ فيه الأمكنة بصورها التي تغيرت في الحاضر، الطرقات، الأسواق، المباني، السكان، الخدمات. بالإضافة إلى تفاصيل الزمن المترع مشقة، احتمله الأسلاف بكل جرأة و محبة للوطن، حين نرى والد مسعود المنخرط في صفوف الجيش يمضي مع أسرته أينما دفعته رياح الرحيل، بلا تذمر، في ظل شظف العيش و المناخ الصعب، و قلة وسائل النقل المريحة.
نتلمس المحبة بين أهل الحي و أبناء الشارع الواحد و المنطقة الواحدة، العلاقات المتينةفيما بينهم و التزاور و الاندفاع لخدمة الجميع، مع تحمل المسؤولية الأخلاقي بلا مقابل. نجد الحرص على اكتساب العلم و المعرفة، و الصرامة في التعامل مع المقصّر أو من تسوّل له نفسه إهمال الواجبات. المجتمعات كلها بلا استثناء تتغير، و يعود الحنين بنا إلى الماضي لكأنما هو الأفضل، دون أن نعلم إن كان حاضرنا الذي نضع الآن عليه ألف إشارة استفهام، سيكون عالماً مثالياً مفقوداً عند الجيل الذي سيأتي بعدنا.
مغامرة مسعود في نهايتها، شذّت في نتائجها عن الكثير من النهايات المأساوية التي تنتظر سلوكاً متهوراً كمثل سلوكه أو ما يشبهه من رعونة المراهقين، إلا أنها تظلّ رسالة لابد أن يعيها الأبناء و يفهموها جيداً، و أنّا طالما نحن بعيدون عن المشكلة فإنها تافهة، فإذا ما اقتربت أو وضعت أوزارها فهي كارثة، كما قيل :” قد يبدو الجبل من بعيد كأنه حجر”.
قدّم لنا الكاتب عمله بلغة سهلة قريبة إلى النفس، استخدم أسماء الأماكن و الأشياء و الشخوص كما هي في ذلك الزمن، مستثمراً رحلة مسعود من جازان إلى خميس مشيط، ثم إلى شرورة، إلى نجران بعدها، عائداً إلى خميس مشيط لفترة قبل استقرار الأسرة في آخر الأمر في المدينة المنورة، شاهداً على معاناة لو عرفها الشباب من الجيل الحاليّ لأكثروا من
شكر الله على ما وهبهم من نعم، و رفاه في العيش، في عالم يعجّ بالمنغصات و الآلام و التشرّد.
سلمت اناملك .. مبدعة كالعاده ???