سر الصندوق الذى ألقاه البحر …قصة بقلم د.يونان وليم
فى أحد الليالى التى إكتمل فيها القمر وصار كرةً نورانيةً تشق كبد السماء المظلمة وسُحبها القاتمة التى تتحرك بسرعة وبكثافة حاجبة ضوئه الساحر لكن إلى حينٍ يسير.. فى منظر مبهج كبريق الأمل الذى يمزق رايات اليأس والإحباطات التى نواجهها فى معركة الحياة ناجين بزوارق الأمل مخترقين حواجز الخوف..
_ كان للقمرِ عظيم الأثر على البحرِ وليس على البشرِ وحدهم ..فصار المدّ قويا جدا على غير العادة وأصبح البحر ثائراً يدفع بمياهه فتتحرك إرتفاعا وإنخفاضا ذهابا وإيابا يصاحبها صوت الأمواج المتلاطمة التى تصدم صخور الشاطئ فيحدث جلبة ذات أصداء مخيفة وصفير الرياح الغاضبة التى تشبه موسيقى أفلام الرعب..نوء البحر المتألم الهائج كمن يصرخ من الوجع ولم يعد الصبر حلاً لما يشعر به من سقم؛ فعجل بثورةٍ لفظ خلالها(البحر) بشئٍ غامض إندفع من داخل جوفه إلى السطح ليهدأ قليلاً فيعود لنومه وهدوئه ثانيةً كمن شرب قدحا من الينسون الدافئ ..
وفى مثل هذه الأجواء المخيفة وربما فى هذا التوقيت تحديدا كثيرا ما سمع الصيادون قصصا وروايات عن حوريات البحر بارعات الجمال التى يتخذن هيئة فتيات ذات عيون ساحرة وألوان ساطعة متلألئة كلون الشعب المرجانية التى لا تستطيع تحديد لونها بعينيك لأنها خليط من ألوان الطيف..ذات شعر إنسيابى أسود تغنى فتصدر أنغاما ساحرة بأصوات ملائكية.. أغانٍ من عالم آخر ..يدعوها البعض ممن نجوا بعد سماعها “بأغانى الفردوس” التى تسحر ألباب الرجال فقط..يخرجن من الماء فى أسراب متتالية وفى قفزات إيقاعية جذابة تشبه الدلافين.. يعزف بعضهن على قيثارات تسلب الوجدان وتخدر العقل الواعى فيهيم الرجال بهن.. وفجأة.. تستحيل هيئتهن الجميلة الساحرة إلى أدنى صور القبح فتبرز أنياب مدببة تشبه الحراب من فكوكهن العلوية وترتفع شفاهها لأعلى وتجحظ عيناها ويتحول شعرهن إلى شبه ثعابين قاتلة وأظافرهن الملونة إلى مخالب طويلة مدببة فتاكة تغرزهن فى رقاب المخدوعين وتجتذبهم إلى المياة العميقة ولا تتركهم إلا بعد إنتهاء كل المحاولات لمقاومة الغرق…
_وعلى شاطئ البحر يعيش الصيادين “جوان” و صديقه “ألبيرت” ..
كان “جوان” يشعر بالرضا والقناعة التى هى باب السعادة الحقيقية ومدخلها السرى هو الشكر الذى يفتح العيون المغلقة.. بعكس ألبيرت الذى لا يمتلك هذه النعمة فهو متذمر غاضب وناقم دائما لا يشعر بالرضا أبداً؛ وعلى الرغم من ذلك نشأت بينهما صداقة قوية..كانت حياتهما كسلسلة طويلة من الأيام المتشابهة وكأن الحياة يوماً واحد يعيد ذاته بنفس أحداثة تقريباً كل دورة للأرض حول الشمس ..
كان لكل منهما كوخ بسيط بجانب الشاطئ؛ يسكن جوان مع أسرته الصغيرة؛ و ألبيرت يعيش وحيدا فى كوخه بالقرب من بعضهما البعض.. وعلى الجهة الأخرى من الأكواخ توجد غابة كبيرة يطلقون عليها الغابة السوداء أو “غابة براكسيمون” نسبة إلى الساحر الشرير الذى كان يسكنها منذ زمن بعيد..وهى غابة كبيرة تمتد لمسافات شاسعة يطوقها البحر من جهتين..وكانت مظلمة جدا لا يصل اليها ضوء الشمس أبداً لذا سميت بالغابة السوداء؛ ذات أشجار ضخمة من أشجار السرو العالية الكثيفة والمتشابكة الأغصان..ولسوء الحظ كان لزاماً على أى شخص يريد العبور من الشاطئ إلى المدينة أو من المدينة إلى الشاطئ أن يمر خلال هذه الغابة لساعات قبل أن يصل لوجهته..هناك طريقين عبر الغابة لا ثالث لهما ..أحدهما ممهد ومزين بالورود على طول الطريق بطريقة عجيبة ومبهرة من اوله حتى نهايته الغير معلومة سوى لقليلين ممن ساروا فيه قبلاً _ والذى قيل أنه صنع بواسطة هذا الساحر “براكسيمون” وأعوانه من الشياطين والغيلان التى تسكن المستنقعات فى نهاية هذا الطريق..ليتجتذب ضحاياه من البشر ممن ضلوا طريقهم فى السير دون إرشاد فيمشون فيه منخدعين وصولا إلى المستنقعات المهلكة حيث الموت المحقق ..والطريق الثانى يبدو كممر ضيق بين الأشجار ؛ غير ممهد وتكسوه حجارة على كلتا الجانبين وحجارة متناثرة فى وسط الطريق تجعل المرور فيه عسيراً للغاية بالعربات وحتى سيراً على الأقدام وفى نهايته تظهر ملامح المدينة بأضوائها المتلألئة ومداخنها العالية على أسطح المنازل ؛ والعربات التى تجرها الأحصنة والبغال تعج بها الشوارع ؛وحيث المدنية بصورها المتعددة..
_نحو منتصف الليل أعد الصيادين مركبيهما الشراعيين ولملما شباكهما المتناثرة على الشاطئ ودخلا إلى العمق بحثا عن الرزق كما إعتادا دائما يساعد بعضهما الآخر حتى إذا أصاب أحدهما مكروه أو شئٍ من أهوال البحر مد له صديقه يد العون..
_ولم يكن البحر فى ذلك الوقت هائجا ..كان ساكنا كمن يراقب عن كثب فريسته فينتظر وينتظر للحظة المناسبة ثم ينقض..جدف “جوان وألبيرت” بثبات وبخبرة الصياد الماهر لعدة فراسخ بحسابات أهل الصيد وصولاً إلى منطقةٍ هادئة فألقوا بشباكهما بعد أن جعلا مسافة بين قاربيهما حتى لا تدفعهما الأمواج فيصطدما ببعضهما..فى صورة أشبه بالعلاقات الإنسانية بين البشر والتى يشترط لنجاحها وإستمرارها وجود فواصل فولاذيةٍ وخطوطٍ حمراء للخصوصية لا يجب لأى طرف تجاوزها أو حتى المساسِ بها ..
_ثم بدأ البحر فى الغضب والهياج مما دفع الصيادين إلى سحب الشباك والعودة بقاربيهما إلى الشاطئ لحين إستقرار البحر الغاضب ..
وإذا بشئ ثقيل قد علق بالشباك ؛ فساعد جوان صديقه بسحبها..وكانت المفاجأة وإذ بصندوق كبير قد أمسكت به الشباك وتحت ضوء القمر الساطع استطاعا رؤيته بوضوح..يبدو كصندوق سقط من سفينة أو مركب غارق بعيدا ؛ سقط إلى العمق القريب وإلتقطته شباكنا ..
إنه صندوق يا جوان..قال ألبيرت..ثم مد يده ليمسك بطرفه وجذبه بقوة لكنه يبدو ثقيلا جدا..ساعدنى يا جوان ..فاقترب جوان بقاربه من قارب ألبيرت وأمسك كليهما بالصندوق وجذباه خارج المياه وهما ينظران بدهشة ممتزجة بالفرحة إلى الصندوق الذى يبدو أنه قديم وأثرى وحتماً يحتوى على كنز ضخم سوف يعوضنا عن حياة الشقاء التى عشناها يا جوان….قال ألبيرت..
لكنه مغلق بإحكام شديد بمجموعة من الأقفال..ياإلهى.. لابد أنه ملئ بالذهب والمرجان والياقوت واللؤلؤ و ال…قاطعه جوان..إهدأ يا صديقى ولا تستعجل الأمر( بصوت عالى وسط الأمواج وتساقط المطر الغزير)..فلنجدف رجوعاً إلى الشاطئ ولنر ما داخله فى الكوخ ..نعم قال ألبيرت ولكنه سيبقى معى ..وفى حضنى حتى نصل إلى هناك..إبتسم جوان وقال له ..حسنا..فلنجدف بسرعة فالبحر يزداد غضبا والمياه تكاد تملأ مركبينا..فلنتحرك بسرعة..
جدف الصيادين حتى وصلا إلى الشاطئ بصعوبة بالغة وفور خروجهما من الماء وحملهما للصندوق خارج القارب..بدأ البحر الهائج فى السكون..حمل ألبيرت الصندوق الذى كان يحتضنه كطفله المدلل بإبتسامة لا تفارق وجهه ؛ بمساعدة جوان سار كليهما بخطىً ثقيلة فالمطر ورمل الشاطئ جعل أقدامهما تنغرس وتنطبع فى الرمال..حتى وصلا إلى الكوخ الصغير الذى كان يسكنه ألبيرت..فوضعاه على الطاولة وراحا يتفرسان فيه من كل إتجاه يحاولان فتح أياً من تلك الأقفال الثلاثة لكن دون جدوى.. فالأقفال الصدأة بفعل ماء البحر جعلت من فتحه ضرباً من المستحيل..نظر جوان لألبيرت قائلاً..لا جدوى من كل هذه المحاولات يا صديقى..هناك شخص واحد فقط يستطيع فتح هذه الأقفال..إنه “آندرسون” الحداد الذى يسكن فى أطراف المدينة بالقرب من الغابة فى الجهة الأخرى..ولكن هل أنت مجنون يا جوان ..أتريد شخصاً آخر أن يشاركنا فى كنزنا..لا يوجد حل آخر يا صديقى..فلنذهب إليه فبدون مساعدته لن نستطيع أبدا فتح الصندوق أو حتى معرفة ما بداخله..تردد ألبيرت لكن سرعان ما وافق على رأى جوان ..بالطبع لا يوجد حل آخر..
وضع جوان وألبيرت الصندوق داخل عربة خشبية ذات عجلات وغطوا الصندوق بقطعة كبيرة من القماش وسارا طوال الليل عابرين الغابة خلال الطريق الضيق ؛ أحدهما يسحب العربة والآخر يقوم بدفعها من الخلف..حتى وصلا لبيت أندرسون الحداد..
حاولا التخفى بقدر ما إستطاعا كيلا يشك أحد فى أمرهما أو فيما يحملان..لكن أحياناً يكون الحذر الزائد مثيراً للشك أكثر..فكان الصيادين يلتفتان يمينا ويسارا مما جعل شخصا آخر يراقبهما ويتابعهما بعينيه من بعيد.. لمعرفة ما يخفيان وماذا يحملان للحداد فى هذا الوقت المتأخر قبيل الفجر ..
_قام جوان بالطرق بهدوء على باب أندرسون الحداد وإنتظر طويلا حتى فتح لهما الحداد متسائلا..ما الأمر يا رجل ..فلندخل أولا ونتحدث..قال جوان..بينما يمسك ألبيرت بالصندوق المغطى ..بدا القلق على وجه أندرسون الحداد ..وسمح لهما بالدخول..وأغلق الباب جيدا..ثم وضع ألبيرت الصندوق على منضدة ونظر إلى الحداد ..هذا هو الموضوع؛..ما هذا الصندوق..سأل الحداد..رد جوان .لقد وجدناه ليلة أمس فى البحر بعد أن علق فى شباك الصيد ولا نعلم ما بداخله..تفحص أندرسون الصندوق بعناية من كل الجهات ونظر إلى الأقفال..يبدو أنه قديم جدا فهذه الأقفال لم يعد يستخدمها أحد لأكثر من مائتى عام وهى صدئة ولن يفتحها اى من المفاتيح التى لدى هنا لذلك لابد من تحطيمها بالقوة..رد ألبيرت..حطمها يا عزيزى كما يحلو لك فلهذا جئنا إليك..غاب أندرسون لدقائق ثم عاد حاملاً مجموعة من الأدوات وفاس حاد كبير ..محاولا بجميعها فتح الصندوق دون أن يلحق به الأذى لكن دوى جدوى مما إضطرة إلى إستخدام القوة وإنهال بالفأس الحادة على الأقفال واحداً تلو الآخر حتى جاءت اللحظة الحاسمة ..إقترب ألبيرت أكثر من الصندوق مزيحا الحداد من طريقه ومد يده وفتح الصندوق..فى تلك اللحظة قاطعهم صوت طرق عنيف على الباب فإرتبك الجميع ونظر كل منهم للآخر نظرات تحمل الخوف والقلق معاً..ولكن بسرعة ألقى أندرسون الغطاء القماشى على الصندوق وحمله إلى أحد أركان الغرفة بجانب دولاب قديم كى يبدو كقطعة من الأثاث القديم الذى يملأ الغرفة..
فتح الحداد الباب وشعر بصدمة كالصاعقة ..سيدى “لورانس” ضابط أمن المدينة..إرتبك الحداد ولم يدرى ماذا عليه فعله ..هل يسمح له بالدخول فينكشف أمرهم أم يبدو فظاً ويتركه واقفا خارجاً..كان لورانس ضابطا فاسدا سئ السمعة معرف عنه الرشوة وصورة قاتمة للقانون والعدالة..يبدو كالكابوس الذى فرض نفسة عنوة ويرفض المغادرة..
حسنا..حسنا..قال لورانس..لن أعتبر نفسى غريباً وسأدعو نفسى لشرب قدح من القهوة فى بيتك يا أندرسون..إرتبك أندرسون أكثر وبإندفاع قال له ..تفضل بالطبع يا سيدى..
دخل لورانس وبنظرة فاحصة خبيثة قال ..يبدو إننى قد جئت فى وقت غير مناسب بالمرة ..فهذا وقت الأصدقاء..أليس كذلك..؟!
كلا يا سيدى تفضل..رد جوان وألبيرت معا ..
أغلق أندرسون الباب ونظر الجميع فى خوف إلى لورانس ..ثم قاطع لورانس أفكارهم جميعا ونظر إليهم بعد ان أشعل النيران فى إحدى طرفى لفافة التبغ التى يضعها بين أصبعيه قائلاً …لن أطيل عليكم وسأدخل إلى لب الموضوع مباشرة..فأنا قد سمعت كل شئ وعرفت ما الذى تخفيانه هناك..لذا فلنفتح الصندوق سوياً ولن أطمع فيما وجدتموه ..فقط سآخذ نصف ما فى الصندوق دون ادنى جدال أو فِصال..وأنتم من حقكم النصف الآخر..بهذا أكون عادلاً جدا ..أليس كذلك ؟!
_فرض هذا المتطفل الوغد نفسه عليهم بالقوة وأجبرهم على أن يصبح شريكهم عنوة فى كنز الصندوق وإلا سوف يتهمهم بالسرقة أو يلفق لهم أى تهمة وبالبطبع هو خبير فى هذا الأمر.. عندها يحق له القبض عليهم التحقيق معهم..وسرقة الصندوق
_نظر ألبيرت إلى جوان بغضب شديد وبنظرات تطلق سهاما نارية كمن يلومه بشدة لوضعهم فى هذا المأزق..ثم إلتفت إلى هذا المتطفل اللعين وهو يهز رأسه(أى ألبيرت) بالموافقة..حسناً يا سيدى كما تريد..
ساد القلق والتوتر على الحاضرين وتوجه أندرسون نحو الصندوق فأحضرة من الركن ووضعه على الطاولة كما سبق ؛ثم رفع عنه الغطاء وقام بفتحه..وبمجرد ان فتح الصندوق حدث تغير غريب ومفاجئ للجو؛ فهبت ريح شديدة وراح تصدر صفيرا مدويا كعواء الذئب وكصوت نواح متكرر دون توقف؛ فتخبطت ضلفات الشباك الخشبية بعنف وتساقطت منها قطع الزجاج المكسورة إلى الأرضية ..وراحت قطرات المطر الغزير تنهال من الخارج مسرعة للدخول عبر النافذة كمن يريد متابعة ما يحدث عن كثبٍ..
نظر جوان إلى صديقه ألبيرت وقال له..لا أشعر يا صديقى بإرتياح بخصوص هذا الأمر فهذا يبدو كنذير شؤم ..رد عليه جوان وربت على كتفه ..لا تقلق إنها مجرد إضطرابات طقسية لا أكثر..لا تخف..
فتح أندرسون وألبيرت الصندوق سوياً وكانت المفاجأة ..وجدوا صندوقا صغيراً ذو لون أسود مصنوع من خشب الأبنوس ومحلى بالذهب فى جميع جوانبه وزواياه وبجانبه رسالةكبيرة مختومة بختم ملكىٍ أحمر كالرسائل الرسمية التى تصدر من رجال الدولة وحولها مجموعة كبيرة من اللفافات الصغيرة المختومة بختم أسود براق مرسوم عليه بعض الرموز والأشكال الغير مفهومة على شكل دائرة تشبه القمر المكتمل.. مد جوان يده وأمسك بالرسالة الكبيرة بينما شدق الحاضرين عيونهم بالصندوق..الكل يفكر فى الصندوق والفضول يكاد يقتلهم جميعا عدا جوان الذى يكترث بالحرى لأمر الرسالة أكثر من الصندوق..الأمر الذى بدى مريباً أكثر فأكثر..أسرع جوان بفتح هذا الختم بحركة بسيطة من خنجرة الصغير اللامع وفتح الرسالة وقرأها بصوت عالٍ..
“أنا الجنرال فلاديمير..قد شهدت بما رأيت عما أصاب رجالى من الجنون بعدما فتحوا هذا الصندوق اللعين..فإحذر يا من وجدت الصندوق ..أرجوك لا تفتحه مهما حدث..وإن حدث وفتحته فلا تنصت له..!! ”
نظر الحداد ورجل الشرطة والصياد نحو بعضهم البعض فى قلق تغطى ملامحه سخرية مصطنعة … “لا تنصت للصندوق !! ما هذا الجنون ..هل يتحدث الصندوق لنصغى او لا نصغى إليه!!..وما الذى يمكن أن يكون بالداخل سوى كنز خبأه أحد الأثرياء فى سفينته وقد كتب هذه العبارات ليخيف رجاله ويمنعهم من سرقته”..
هز الجميع رأسهم بموافقته على هذا الرأى عدا جوان الذى صار يرتجف من الخوف…ولما لا قد يكن هذا ما حدث بالفعل..أجابهم جوان ..ثم نظر إلى صديقه ألبيرت..فلنرحل يا صديقى الآن أرجوك قبل فوات الأوان..أرجوك..فليذهب الصندوق بما فيه إلى الجحيم..
ماذا تقول يا جوان..أتريدنى أن أتخلى عن كنزى الآن بعد كل ما عانيناه..كلا بالطبع..
إذن سأرحل أنا ..الوداع يا صديقى ..قال جوان..ثم فتح الباب بعد أن ألقى بالرسالة والخنجر إلى الأرض ورحل من حيث جاء إلى الشاطئ حيث ينتمى..
لم يكترث ألبيرت برحيل صديقه فالصندوق فقط هو شغله الشاغل..
مد الثلاثة أيديهم إلى الصندوق الصغير وفحصوه بإمعانً
فوجدوا إنه مغلق دون أقفال ولا توجد عليه أى علامة أو أثر لمكان يمكن أن يوضع فيه مفتاح ..يبدو مصمتاً كقطعة صخرية لا مدخل لها ؛لكن كتب على أحد جوانبه رسالة ..وبجانب الصندوق عدد من اللفافات الصغيرة جميعها نفس الحجم والأبعاد ومغلقة بإحكام..
..لكن الغريب فى الأمر أن ما كتب على الصندوق كان بلغة يستطيع الموجودون قرائتها بسهولة عدا الحداد المسكين الذى لا يجيد القراءة أو الكتابة.. فقرأ ألبيرت الرسالة المحفورة على الصندوق بصوت عالٍ ” الثروة التى فى هذا الصندوق إذا إستحققتها ستجعلك أغنى أغنياء العالم ..لكن عليك بإختيار لفافة واحدة فقط من اللفافات الموجودة بالصندوق..واحدة فقط..وعليك أن تقرأها وحدك بعيدا عن الآخرين وتنفذها بكل حزم مهما تطلب الأمر..وإلا ضاع حقك فى المطالبة بالكنز..عندها سينفتح الصندوق من ذاته وتنل كنزك أخيراً..
تحذير..إذا حاول أى شخص أن يأخذ أكثر من لفافة واحدة ..ستصيبه لعنة الصندوق وسوف يموت فى الحال منصهراً كشمعة وسط النيران..أما إذا أردت الإنسجاب فالآن هو الوقت المثالى لذلك”
_نظر الرجال الثلاثة إلى بعضهم وصار صوت تنفسهم عاليا يمكن سماعه أكثر ضجيجا من صوت الريح التى تحرك الأشجار خارجا وتدفع باب ونافذة الكوخ الخشبى..
_مد كل واحد من الثلاثة يده وأخذ لفافة واحدة فقط مختومة من تلك اللفائف الكثيرة..وأخذ كل منهم جنباً ليقرأها على حده..ولكن الحداد الذى لا يقدر على القراءة أصبح فى مأزق حقيقى ..ماذا يفعل؟! لقد كان شديد الثقة فى جوان لكنه رحل ..لذا عليه نقل ثقته إلى شخص آخر ..بالطبع لن يكون هذا الضابط الماكر الوغد..ليكن ألبيرت إذن..فنظر إلى عينى ألبيرت الذى قرأ رسالته وإبتسم..كذلك لورانس يحمل نفس الإبتسامة الماكرة..تظاهر الحداد إنه قرأ رسالته ففتحها لدقائق ثم لفها وإحتفظ بها..راح كل واحد من الثلاثة ينظر للآخر ثم إلى الصندوق..يبدو أن الرسالة التى إختارها كل واحد تناسبه حقا فالكل راضٍ وسعيد..لكن يا ترى ما فحوى رسالة كل منهم…لا أحد يدرى سوى الصندوق ..نعم الصندوق ..فلقد أصبح هو الآن القائد موزع الأدوار بل موزع الأقدار لأنهم هم من جعلوه يتحكم فيهم هكذا..فالبعض سيصبح غنيا والآخر لن ينل شيئا..
_ماذا سنفعل الآن يا رفقاء الصندوق صاح الحداد ..إبتسم الضابط والحداد وقال ألبيرت..لا أدرى..وقال لورانس لا أدرى أنا أيضاً..يا له من أمر محير حقاً..
إقترب الحداد من ألبيرت وحدثه بجملة سرية بصوت غير مسموع فى أذنه جعلته يضحك بشكل هيستيرى..فتضايق الحداد حتى إقترب منه ألبيرت وحدثه أيضا فى أذنه بجملة جعلته هو الآخر ينفجر ضاحكا..توتر الضابط لورانس وراح يتابعهما بنظراته خشية أن يتآمرا عليه ..تعالى صوت الضحكات التى زادت من توتر لورانس ..فأشار إليه ألبيرت ليريه الرسالة التى إختارها الحداد فإقترب على الفور الضابط مدفوعا بالفضول التى كاد أن يقتله..فباغته ألبير بضربة مفاجئة بسكين غرسه فى قلبه مباشرة كان هذا نفس السكين الذى ألقاه جوان مع الرسالة إلى الأرض قبل أن يرحل..لكن إلتقطه ألبيرت دون أن يلحظ أحد ..سقط الضابط الوغد على الارض يلتقط أنفاسة الأخيرة غارقا فى دمائه لا يقوى على الكلام..يقبض بيدٍ على قدم ألبيرت والأخرى يحاول أن يمدها لأعلى لتمسك بالصندوق..
_راح الحداد يصرخ فى وجه ألبيرت ويتخبط يمينا ويسارا..يا إلهى ..يا إلهى..ما الذى فعلته أيها المجنون..لقد قتلته..قتلته..هل تظن إننا سنفلت من العقاب..إنتصب ألبيرت وأمسك بكتفى الحداد فى حدةٍ..أصمت أيها الغبى..أنت من ستقضى علينا بغبائك..لقد كان يدبر لقتلى أنا وأنت ..لقد رأيت يده داخل معطفه تتسلل للضغط على زناد مسدسه إستعدادا لقتلنا أيها الغبى..والدليل سوف أريك إياه..أخرج ألبيرت المسدس من جيب معطف الظابط لورانس ..وقال هل صدقت الآن..هدأ الحداد قليلا وسأله ..ماذا لو قُبض علينا..أجاب ألبيرت..ومن يعلم انه جاء إلى بيتك منذ البداية..سوف نضع جثته فى العربة ونغطيها ثم نعبر الغابة حتى المستنقعات فنتخلص منها هناك ولن يعلم أى أحد بهذا..تردد الحداد كثيرا لكنه وافق فى النهاية ..
_ لقد خطط ألبيرت الماكر لكل شئ فى لحظات..خطط للتخلص من الضابط الوغد ..وخدع الحداد الساذج عندما كذب عليه وأخبره سراً فى أذنه ..”أنا أيضا لا أجيد القراءة”..لقد ضحك بشكل هيستيرى أيضا عندما إلتقط رسالة الضابط وقرأها فى سره وضحك قبلها عندما أخبره الحداد أنه لا يستطيع قراءة رسالته لأنه أمىّ…فرتب المؤامرة كاملة..لقد كانت رسالة الحداد ورسالته وحتى رسالة الضابط جميعها تحمل نفس المضمون وهو “إذا أردت الكنز وحدك ..فتخلص من الآخرين”..فيا لها من مؤامرة تدار على مؤامرة..
_وضع الصياد والحداد جثة الضابط القتيل فى العربة سراً وغطياها جيداً وبجانب الجثة وضعوا الصندوق الصغير خشية أن يسرقه أحد..وتوغلا داخل الغابة ولم يكن الحداد بالطبع يعلم الطريق جيدا فتقدم ألبيرت المسيرة حتى وصلا إلى مفترق طرق يبدأ عندها طريقين أحدهما يقود للشاطئ والآخر نحو المستنقعات فإتخذا الطريق الثانى وسارا فى الغابة المظلمة لساعات حتى وصلا إلى ذلك المكان الملعون ..ضباب يكسو المكان يجعل الرؤية مستحيلة لولا ذلك المصباح اليدوى الذى يحمله ألبيرت فى يده..أشجار سوداء كالأشباح تملأ المكان تجعل من يمر بها يخيل له بأن أحداً يراقبه فى مل لحظة..وأصوات تشبه تنهدات وأنات بشرية كتلك التى يصدرها من هم على فراش المرض أو الموت..وأصوات الغربان تملأ المكان بأصداء مخيفة ومفزعة..شعر الحداد بالخوف والتوتر ..يا إلهى قال الحداد إنه مكان أشبه بالهاوية..فنظر إليه ألبيرت وقال له إنه كذلك.. ثم عاد لصمته ثانية..سارا كليهما لمسافة قليلة ثم توقف فجأة ألبيرت وإخترق حاجز الصمت ثم قال له..هنا يا اندرسون فى هذا المستنقع الكبير لنلقى بجثة هذا الوغد إلى الأبد لتبتلعه الهاوية..حمل الحداد الجثة وتوجه نحو المستنقع الذى أشير إليه وبقى ألبيرت بالقرب من العربة التى أمسك بقائميها جيدا بذراعية فى إستعداد لدفعها للأمام ..ثم إقترب بالعربة لمسافة قريبة من الحداد وناداه بصوت عالٍ ..هل ألقيت بالجثة..جاءه صوت الحداد من بعيد من أعماق الضباب..نعم لقد ألقيتها..عندها إندفع ألبيرت بالعربة بكل قوته ليصدم الحداد بقوة شديدة وهو على حافة المستنقع جعلته يفقد توازنه ويسقط فى الوحل الأسود ..راح الحداد يصرخ بصوت مدوى..ألبيرت..ألبيرت..مد يدك نحوى..ساعدنى ..ساعدنى..أرجوك.. فنظر إليه ألبيرت نظرة ماكرة وساخرة فى آن واحد..إنه نهج الحياة يا عزيزى ..لو تركتك على قيد الحياة سوف تقتلنى أنت فى أقرب فرصة سانحة..وبما أنك على مقربة من الموت سأخبرك بسرٍ صغير..لقد كذبت عليك ..فانا أجيد القراءة وقد عرفت فحوى الثلاثة رسائل ..فكل منهم تقول أن من يريد الحصول على كنز الصندوق لابد أن يتخلص من الجميع..فالكنز لشخص واحد فقط..وها قد تخلصت منك أيها الغبى..سأتركك لتموت ببطئ عندها سأكون قد غادرت هذا المكان الموحش..أشعل النيران لأستدفأ بها بجوار صندوق الغالى ..فى كوخى المتواضع..
قال ألبيرت هذه الكلمات بينما يدفع العربة ويهم بالرحيل..بينما يصارع الحداد الطين والوحل الى غاص فيه حتى صدره..وكلما حاول المقاومة والخروج منه ؛ إنغرس فيه أكثر..
_عبر الصياد الماكر الغابة السوداء وراح كل بضع دقائق يرفع الغطاء عن الصندوق ويفحصة لكنه لايزل مغلقا ..الذى معناه أن الحداد لازال على قيد الحياة..لكن سرعان ما ستخور قواه ويغرق فى الوحل..
_وصل ألبيرت إلى كوخه على الشاطئ منهكاً من الإجهاد ..فى شوق وفضول قاتلين ..أشعل نيران المدفأة وإنتظر لساعات قليلة كاد الإنتظار أن يقتلة أكثر من الوحل الذى يغوص فيه ذلك الحداد البائس..وفجأة جاءت اللحظة الحاسمة وإنفتح الصندوق من تلقاء ذاته ..وكانت المفاجأة ..يا إلهى.. أين الجواهر واين الذهب ..فقط قارورة تشبه قارورة العطر ..هل هذه هى ثروتى التى قاتلت من أجلها..ألبيرت فى ذهول ويأس يكاد يتوقف قلبه من فرط الحزن ومن هول الصاعقة ..فتش بإمعان داخل الصندوق ..فلم يجد سوى رسالة مختومة بختم اسود تشبه تماما تلك التى كانت له وللضابط والحداد ..جلس على كرسى لأنه شعر بأن قدميه لا تقوى على حمله..قرأها بصوت متقطع متألم ويائسٍ..” أيها البائس الأحمق..لابد أنك قتلت جميع من حولك حتى تصل إلى هذه الرسالة التى بين يديك الآن..أيها الوغد القاتل..لا مكان هنا للأبرياء ..هنيئاً لك بالوهم والسراب..فإن كان لايزل داخلك شئ من الشجاعة أو من الإنسانية التى تحرك مشاعر الندم داخلك..فتلك زجاجة الخلاص ..سُم قاتل..سوف ينهى آلامك للأبد..فلا أظن إنك تستطيع العيش بهذا الكم من الندم إذا بقيت حياً….لا تتردد .”
الإمضاء..صندوق الدنيا”
_إنتصب ألبيرت من على كرسيه والدموع تملأ عينيه وسار بخطى ثقيلة نحو القارورة وفتح غطائها وتجرع ما بداخله بأكلمه..وعاد للجلوس مرة أخرى على كرسيه منتظرا ذلك الشبح الأسود ذو المنجل الحاد يمسكة بيمينه منتظراً بصبر فائق للحد.. فقد إستدعاه(أى ألبيرت) اليوم أكثر من مرة ليحصد حياتين لبشر لا ذنب لهم سوى أنهم إنخدعوا مثله بالصندوق اللعين…وها هو فى إنتظار حصاده الثالث..روح ألبيرت
_هكذا الدنيا يا صديقى ..صندوق مغلق يسعى الجميع لفتحه ونيل ما بداخله ظانين أنه يحوى شيئا ثميناً..الأكثرية ينجذبون خلفه وينفذون أوامره بكل حزم .. فيبيعون الأحباء ويغدرون بالأصدقاء ويلقون بالأخلاق والقيم فى مستنقع الوهم والأكاذيب ..لقد نجا منه فقط من زهد فيهِ وإكتفى بما أعطاه الله من نِعم.. فنَجىَ قبل فوات الأوان