عن” كرسيّ شاغر ” …للشاعرة خولة سامي سليقة
…………………………………………………………………………………
في (شعرية الكرسي) يقول الشاعر المغربي القمري:
” اجلس على كرسيك الهزاز
و استمتع بخيرات البلاد
دع حلمك الوردي يفتك بالعباد
و يشوّه الدنيا بأسراب… الجراد ”
ما قصّتنا مع الكرسيّ يؤلمنا كما لو أن بينه و بيننا ثأراً قديماً ؟ أما كفانا ما يأتينا منه حتى نبحث
بلهفةٍ عمّن يحشو هذه المساحة المؤثرة ؟ عمّن يقيّدنا بأصفاد يُعيينا الخلاص منها أو نسيان
آثارها ؟ نظلّ نأمل أن يأتينا هذا المقعد بجديد ، بأمل، ببرقٍ، بنصرٍ، بحبّ، و عبثاً يكون انتظارنا.
الكراسي لا تتواجد إلا من أجل إقامة محدودة ، يحاول المرضى و المتمسكون بأذيال السلطة
أحياناً إطالة مدة المكوث فوقها ،لكنهم يموتون في النهاية مهزومين، خارجين من نظريات
الديمومة و الأبدية المعشّشة في أذهانهم … من أجل هذا أيضاً يغادر الأحبة كرسيّ القلب بلا
سابق إنذارٍ ،الكرسيّ لانتظار مؤقت و الأرض و ترابها هناك المقرّ الأخير.
هل تقسو قلوب الأحبة لأنها العرش و نحن الموجعون، فنهرب إلى الصمت؟
” أوطاننا لغةٌ … تموت إذا تكلّمنا
و تبدأ بالذبول . ”
هذا ما قاله الشاعر (نادي حافظ) في ديوانه ( كرسيّ شاغر )، بعد وداعها بشارعين تقريباً،
أمكنه أن يحرّك جفنيه المبتلين بمطر اللقاء الأخير، ذلك الهطل لا يعترف بفصول السنة و لا
قوانين الطبيعة، ربيعٌ ،خريف، صيفٌ .. ثم شتاءٌ بل فيض حزنٍ، نقلب دوران الأرض حول
الشمس حين يدعونا الحب إلى ذلك، امرأة واحدة تغيّر التقويمَ، بعدها نساءُ الأرض يصبحن
وصيفاتٍ في الحب ليس أكثر:
” تعالي نجمّع أيامنا كلّها في علبة قديمةٍ
و نضعها في خزانة الملابس
و ننساها تماماً
ثمّ نجرّب الحياة مرّةً أخرى”
هكذا انتظمت المقطوعات بترتيب منطقيّ حين ألفى الشاعر نفسه قرب صوتها، آملاً تبادل الحياة
معها( كان بودّي لو تصعدين معي قليلا …إلى سدرتي في الأعالي)، يدعوها إلى تجربة جديدة
في لوحة الحبّ عينها، يدخل بفلسفة باسقةٍ حقولَ الجسد، مخاطباً من يعرف لغة الحدائق جيداً،
حتّى يصل إلى الرسائل الطائشة التي تحلّق بعشوائية ظاهرة، و وجهة دفينة حفظها كلّ حرفٍ من
حروفه و شهقت لها الفواصل.
لم يبتكر الشاعرُ عشق المرأة لكنه ابتكر طريقة لرسم عشقه، لم يكابر في رسم ذكورة تتخطّفها
لوحاتٌ متباينة السّحر( ما بين لوحة و أخرى …أدرّب عيني على الشهوات ) ذاك خيلاء الشعراء
و هو البستانيّ الذي تشدّه قواريرُ العطر، يسكنهُ شذا امرأة لا يوقنُ دوماً بوجودها لكنّها امرأتهُ
الوحيدةُ ( المركبُ الذي هناك ربما لا يوجد فيه غير امرأة واحدةٍ )، ( كلها تحاولُ اللّحاق بمركب
وحيد …فيه امرأةٌ وحيدة )، ( لا يهمّ ما دمت ساطعةً في الذاكرة ) لو استطاعَ أن يملأ شغف
الفراغاتِ الصارخة باسمها، ربما ارتاح قليلا لكنهُ( كرسيك مسكين في غيابك، يتيمٌ، و عاجزٌ
عن الحركة)، ربما كرسيّها قهرٌ لقلبه، دفءٌ و حضنٌ لا يعود، ترقّب لوداع قبل اللقاء، أيّا كان هو
غارقٌ في لجّة الغياب!
الصدقُ يقودنا إلى المزيد من الألم، لكنّ الشاعر يختارُ وجعه بمحض إرادته ،يخلّد مقطعاً من نشيد
أيامه على هيئة كرسيّ يبدو للناظر شاغراً، حتى على غلاف العمل بدا الكرسيّ براقاً مشعّا كما
الذكرى الماثلة في النفس، بقوائم رشيقة من أحذية نسائية ترتفع عن الأرض بشموخٍ، الذهب
بهجة الحبيبة المترفة، و الحذاء(بكعب عالٍ ) أناقة، جمال، شاعرية، مع ساق رقيقة كظبية
سريعة العدوِ و الغياب.
الأشياء كائن عضويّ، مُنح بعداً ميتافيزيقياً ليتحرّر من الواقع و يلحق جنونَ القصيدة. ندرك هذا
في التاريخ جيداً، إذ الكلمات لا تقلّ جمالية في ألوانها و حضورها عن ريشة الفنان و لوحته،
التاريخ حفظ كرسيّ الفنان فان كوخ، الذي رسمه إكراماً لصديق أسعده القرب منه (بول غوغان)،
هو كرسيّ لكنه كان عالماً يخلّص العقل من سكونه و الروح من سجنها، ليس هناك أجمل من
الإيجابية المطلقة نحو الجوهر الأساسي للأشياء، سمو الواقعية على أي حقيقة ولدت في
الماضي، و الأجمل أن نشرب الصباح كأس زهو لأننا تلمّسنا و رأينا ذواتنا قبل غيرنا … حدقنا
في قرصِ الشمس طويلاً و إن أعقبه دمعٌ غزير.
خولة سامي سليقة