فقراء لكنهم فى الحقيقة نبلاء … قصة بقلم د.يونان وليم
فى منتصف القرن التاسع عشر عاش رجل عجوز يدعى “باولو ” فى أحد أحياء مدينة نيويورك الأمريكية.. إعتاد الجلوس فى ساحة واسعة تلتقى خلالها عدة حارات فرعية يسكن فيها عدد كبير من فقراء المدينة الكادحين .. وكان هذا العجوز فقيرا جدا يبدو ذلك واضحا على مظهره ..يكسب قوت يومه ببضع عملات معدنية عن طريق العزف ب “كمانجا” يمتلكها ..
_باولو يجيد العزف على كمانجته بإتقان وإحترافية شديدة تسلب موسيقاه عقل وقلب كل من يسمعه فيتمايل من شدة الطرب وروعة النغم المؤثر الذى يغوص داخل النفس .. تارة يعزف لحنا حزينا فتنهال الدموع على الخد وتارة يعزف لحنا مفرحا فيبتهج السامعون وترتسم على وجوههم إبتسامات تنم عن سعادة لمست العقل والقلب ويهمون بالقفز والرقص ..هكذا طوال العام يعيش هذا العجوز الفنان محتملا جو الشتاء البارد الذى سطو على معظم شهور العام ..حتى وسط إنهمار المطر الغزير لا يكف هذا الفنان العجوز عن نشر البهجة والسعادة على المارة من البسطاء ممن يقطنون هذه الأحياء البسيطة..فتجد المارة يلوحون له بالتحية كل صباح وهم ذاهبون إلى عملهم وفى المساء وهم عائدون من العمل ..
فبعد أن ينتهى الفنان العجوز من عزف مقطوعاته الجميلة وينطرب المستمعون من جماهير المارة ..يصفقون بحرارة ويلقى كل منهم عملة معدنية أو أكثر فئة السنت الواحد تعبيرا عن إمتنانهم له وتقديرا لموهبته الفذة ؛ فتتساقط تلك العملات البسيطة الواحدة تلو الأخرى كقطرات المطر فى صندوق الكمانجا المكسو بالجلد الأسود القديم والتى يضعها بالقرب منه.. _على هذه الحال يعيش باولو _منذ أعوام لا أظن أنه يتذكر عددها او حتى من يقطنون تلك الحارات والذين إعتادوا رؤية هذا العجوز كل يوم منذ أن كانوا أطفالا صغار حتى كبروا على أنغامه وموسيقاه الراقية التى شكلت عقولهم وحسهم الفنى لتذوق كله ما هو جميل..
_وفى نهاية اليوم الشاق الطويل يقوم باولو بجمع هذه العملات البسيطة ويضعها فى جيبه ويسير متجهاً نحو دكان البقالة المجاور للفندق المتواضع الذى يسكن فيه ؛ فيشترى رغيفين من الخبز وقطعة جبن انجليزى ويلفهما فى كيس صغير ويذهب إلى غرفته فى الفندق..مكتفيا بما لديه وشاكرا ..
_وفى إحدى الليالى المطيرة بينما كان باولو عائدا فى المساء نحو الفندق مرت سيارة أمامه يقودها شاب اهوج بسرعة جنونية ..فصدمته بقوة فألقت به جانبا وانطلقت مسرعة فى طريقها وكأن من دهسه بسيارته مجرد فأر يسكن المجارير لا أكثر…
_تجمع عدد كبير من الناس فور سماعهم صوت الإرتطام الذى حدث وأسرعوا وحملوا جسد العجوز المسكين الذى يعرفه الجميع من سكان الحى ويعرفون أين يقطن ؛ ونقلوه لغرفته فى الفندق وأسرعوا بإحضار الطبيب الذى قام بفحصة ووجد عددا كبيرا من الرضوض وكسور فى قدمية تستلزم جبائر قد يمكن عملها هنا دون الحاجة لنقله إلى المستشفى والتى ستكلفه الكثير وهو لا يملك منها أقل القليل وذلك لما يبدو على باولو من مظاهر الفقر الشديد من مظهر وملبس ومسكن..
_هنا تدخل شاب يدعى جيمس يسكن فى الغرفة المجاورة للعجوز وتبرع بان يقوم بخدمته ليل نهار حتى يكتمل شفائه ..وافق الجميع..وراح الشاب الشهم جيمس يمر عليه صباحا ومساءا ويقتسم معه طعامه لبضعة اشهر ..وكان سكان الحى يشعرون بالحزن والأسى لأجل باولو الذى كان يجلب لهم السعادة فى كل صباح ومساء بموسيقاه الخلابة..وكانوا يذهبون إليه فى غرفته يزورونه للإطمئنان على صحتة من آن لآخر ويخبرونه كم يفتدونه ويفتقدون موسيقاه المعزية للقلوب..
_وفى أحد الأيام أشار باولو إلى جيمس بالجلوس إلى جواره..فجاء جيمس ليستمع إليه..فنظر إليه نظرة حب أبوية فيها من الشكر والعرفان ما يغنى عن الكلام وربت على كتفه..وسأله سؤالا طالما حيره قائلاً “لماذا تتكبد كل هذا العناء من أجلى يا ولدى”
أجابه جيمس “إنك منذ سنوات يا سيدى وأنت تبعث فينا السعادة بموسيقاك ..تنعش قلوبنا ..فتتجدد عزائمنا لنكمل تلك الحياة القاسية بكل ما فيها من شقاء..انت تستحق الكثير يا سيدى”
شكرا لك يا ولدى ..رد باولو..من فضلك يا جيمس أحضر لى كمانجتى من هناك ..مشيرا إلى ركنً فى الغرفة …فأحضرها له جيمس..وأخرج كمانجته من الصندوق..ونظر إلى جيمس محدثا..
أترى هذه الكمانجا يا جيمس إنها كنز يا ولدى …أهدانى إياها أستاذى فى معهد الموسيقى قبل وفاته عندما أدرك بقدوم الأجل ..وها انا أمنحك إياها يا جيمس ..فانتبه لها جيدا وحافظ عليها فهى تساوى ثروة ..ثروة اذا كنت عازفا للكمانجا لانك سوف تدرك قيمتها بمجرد ان تضع أصابعك على أوتارها وتمرر القوس عليها ؛ وثروة اذا أردت بيعها لأنها قديمة جدا ومصنوعة من خشب نادر عمرها يزيد عن ٣٠٠ عام..
أشعر بقرب الأجل يا ولدى..خذها فأنت تستحقها يا جيمس..
تستحقها كجزاء للإحسان الذى قدمته نحوى دون أن تنتظر شيئا فى المقابل..فالجزاء من جنس العمل..
_ولكن سامحنى يا “باولو ” فيما سأقوله لك ..هل يمكن أن يكون لدى إنسان مثلك يعيش فى هذا الفقر على الرغم من إمتلاكة شيئا ثمينا كهذه الآلة الأثرية ..إلا إذا كان مجنوناً؟!!
سأخبرك بكل شئ يا ولدى ولك أن تصدق أو لا ..
لقد كنت يوما طالبا متميزا فى معهد الموسيقى واجتزت إختبارات صعبة ومعقدة تخص دراستها ونجحت بإمتياز فإختارنى أحد أساتذتى للعمل كعازف كمانجا أول فى فرقته..ودارت الأيام وأصبحت مشهورا جدا ولى من الألحان ما يملأ كتبا موسيقية ك بيتهوفن و باخ..لكن المال والشهرة يا ولدى كانا هدفى الأساسى فى الحياة فلم اكن أكترث لأحد سوى لذاتى فقط ..فغرتنى الحياة بكل ملذاتها حتى صرت وغدا بكل معانى الكلمة؛ فإرتكبت خطايا وشرور لا أريد أن ألوث مسامعك بها ايها الشاب الطيب..
وكان لى صديقا مقربا جدا منى ؛ رفيق عمرى منذ أن كنا صغارا ؛ يعمل طبيبا وهو مشهور جدا لكنه ترك كل شئ وفضل ان يتفرغ لخدمة وعلاج الفقراء وعندما سألته “كيف تترك كل هذا المجد وهذه الشهرة وتذهب للعمل فى أحياء الفقراء بينما تتمنى أكبر المستشفيات فى نيويورك التعاقد معك للعمل معهم..أجابنى بما لم ولن أنساه ياولدى..قائلاً “هؤلاء الفقراء يا صديقى أقضى معهم أسعد لحظات حياتى …أشعر بقيمتى وبدورى فى الحياة فى علاج مثل هؤلاء..لقد خلقت لأحمل تلك الرسالة النبيلة..وهبت نعما كثيرة وقد حان الوقت كى أرد الدين الذى يكبل أعناقى ”
وطلب منى أكثر من مرة أن أذهب معه إلى أحد المؤسسات التى ترعى الأطفال الأيتام وعندما ألح عليا وافقت وذهبت معه مرة واحدة وعلى مضض فى ضجر وضيق..
فبمجرد دخولنا إلى الدار جاء الأطفال مسرحين نحو “لويس” فى فرحة لا توصف وهم يلقون بانفسهم فى حضنة كالأب العائد من سفر بعيد ..يفتشون فى جيوبه عن الحلوى والشيكولاته ..ويسألونه ماذا احضر لهم هذه المرة من ملابس جميلة وألعاب..
_لقد كانت تلك الزيارة سببا جوهريا فى تغيير حياتى التى كانت بلا معنى حقيقى ..فرجعت إلى بيتى وانا اشعر بإضطراب فى مشاعرى ما بين الحيرة والدهشة والاستغراب ..من منا انا ولويس يؤدى رسالته فى الحياة على نحو جيد ؟..أنا من أبحث عن الشهرة والمال ..أم صديقى النبيل الذى ضحى بكل هذا من أجل إسعاد البسطاء ؟…بالطبع هذا النبيل…
_مرت عدة أسابيع منذ تلك الزيارة الفريدة لدار الأيتام وانا من حينها أشعر بوخزات فى قلبى وأفكار تخيم على عقلى..حتى جائنى خبر جعلنى أسرع فى اتخاذ قرار قد يبدو لكتيرين أنه نوع من الخبل والجنون..لقد مات صديقى النبيل إثر أزمة قلبية أصابته وهو فى وسط من أحبهم ..فى دار الأيتام..
فقررت من حينها أن أحيا لأجل أسمى هدف فى الحياة وهو التقرب إلى الله عن طريق محاولة إسعاد الآخرين وبالأخص أولئك البؤساء الذين ليس لهم أحد يهتم بهم او يبعث السرور فى قلوبهم…قررت أن أحيا فقيرا مثلهم لأشعر بما يشعرون ..أتألم لآلامهم وأفرح لفرحهم..
جيمس مقاطعا..هل تقصد انك تركت كل شئ حتى صرت فقيرا ..
لا يا ولدى فأنا كنت فقيرا ..أنا أمتلك الآن كل شئ … أمتلك الحب والإحترام لذا فأنا أمتلك كل شئ فى الحياة..فالمال والشهرة يا جيمس وجهان لعملة بالية سوف يغطيها الصدأ وعوامل التحلل ليأكل صورتهما حتى يمحى تفاصيلها تماما فتختفى الارقام التى تمثل قيمتها وتصبح معدنا تافها بلاقيمة لا يقدر على شراء أى شيئ ذو قيمة…
وأنا على فراش الموت يا ولدى..أموت فقيرا ومجنونا فى نظر البعض قايضت المال والشهرة الزائلة مقابل الحب والإحترام