كم أسعدني موتك حبيبي …بقلم سلوى معروف
صباحٌ اعتيادي من صباحاتي…
أجلس على شرفة منزلي…أراقب المارة… وأطالع الباعة المنتشرة هنا وهناك…تصفّحاً لوجوه اعتدت قراءتها واستوقفتني تعابير خطوطها…استمع إلى تلك الأصوات المتداخلة الصاخبة التي تصالحت معها منذ سنين…فما عاد لها ذاك الطنين…
تمر عيني على أشكال الفاكهة والخضار المكدّسة …التي لطالما أعجبتني ألوانها وأدهشتني أشكالها…وكانت سبباً إضافياً للتسبيح والتحميد الصباحي…..
أرتشف فنجاناً من القهوة …لا عشقاً بها ولكن لتصديق اللاوعي لدي شعار أو مقولة أو إعتراف أو تقليد لا أعلم ما يسمونه
” الأدمغة الموهوبة ترتشف القهوة صباحاً على شرفات المنازل”.
أستطيع أن أقول إنه يشبه تصنّع العقول…لربما حظيت ببعضاً منها دون مشقة…
يرن جرس الهاتف…ألتقته …أنظر إلى الاسم…رفيقة …لم ترتق لرفقة العقل ولا القلب ولا الهواية…ألقّبها برفيقة المزاج…
لا أدري لماذا !!…ربما لأنها تعدّل مزاجي دائماً…تنقله من حالة التوتر وعدم الرضا إلى حالة من الاستهتار…فأشعر بحال من الارتخاء وانضم حينها إلى طابور معاصر طويل يعفيني من الشذوذ الاجتماعي…لبعض الوقت…
فأُسعد…
تبادلنا أطراف الحديث…مكالمة نسائية عربية صرف…تبدأ بالمجاملة وتنتهي بالمجاملة…وفي السياق نقفز من موضوع إلى آخر …تتراوح قفزاتنا بين اهتمامات المطبخ إلى غرفة الملابس..وصالات الرياضة…إلى المسلسلات والافلام…إلى صالونات التجميل…وإلى … إلخ … ومن ثم الحيز الأكبر وهو الحديث عن الناس…ومع امتداد كل تلك القفزات تقفز معها ضحكاتنا التي توحي إما بالجنون أو بالطفولة…
تخرج مع تلك الضحكات شحنات غضب وامتعاض ..فأشعر بقدرة على استقبال اليوم الجديد بحالة من خفة العقل ..تعطيني فسحة للتنفس الطبيعي…
على طاولة صغيرة إلى جانب مقعدي …اصطفّت مجموعة من المجلات العربية والأجنبية…
أقلبّها …أتفحص غلافاتها …علّ واحدة تخدش مزاج هذا اليوم…
على إحدى تلك الغلافات…صورة فتاة…لا أدري ربما هي إمرأة…من الواضح أنّها امرأة…فبعض النظرات لديها جرأة نساء لا فتيات…
أسفل تلك الصورة كتب بخطٍ عريض…
“الفنانة ___تعيش سعادة لا توصف بعد آخر عملية تجميل”…
ابتسمت…وقلت لنفسي..”سلوى” ها هو يوم السعد أتى…عملية تجميل لاقتحام السعادة”
أفضل من( التعتيير) باللهجة العامية على أبواب الأطباء النفسانيين وإنفاق الأموال على كتب الإرشاد للسعادة مثل..”كيف تصبح سعيداً ؟” ,”شروط السعادة”,”الحل الوحيد للسعادة”, ” الخطوات العشر للسعادة”…وغيرها…
ها هي خطوة واحدة وأغوص بحار السعادة…
ابدأ بتقليب الصفحات بسرعة للوصول إلى تلك الإمرأة السعيدة…
وأثناء بحثي…أمواج من النساء تتهافت بين الصفحات…البعض جميلات راقيات…والبعض يمثّلن الجمال..والبعض تتأذّى حاسة البصر لديك حينتنظر إليهن وكثيرات متشابهات..حتى أنك توشك أن تعتقد أنهن أخوات أو توأمات…
وعلى إحدى الصفحات يصدمك صور بعض النساء بفائض حشمتهن …فتسارع لمعرفة المزيد عن شخصيتهن وطباعهن من خلال ما كتب بجانب صورهن…
وإذ بهن يقبعن تحت تصنيف “المتحولات”…
أحياناً …لا أعكر فكري المحدود…بمعرفة مزيد من التفاصيل…فأجبره على الصمت…
وفي نهاية المطاف…أصل دائماًإلى نفس النتيجة أو نفس الحكم …
“كلهن نساء”…
ومن الطبيعي لم ألتفت إلى العنصر الذكوري…لمقاطعتي منذ زمن متابعة شؤون الرجال…مذ أصبحت الرجولة..بدلات وساعات…
يرن الهاتف للمرة الثانية…يعكّر علي صفو البحث عن تلك الامرأة…
صديق مشترك….
آنس لصوته وتجمعني به مساحة واسعة من الاهتمامات والطباع…
بسعادة أقول…”صباح الخير ..كيف الحال وكيف هو صديقك العزيز” ؟؟؟
بصوت مخنوق…قال: “سلوى”
قلت: نعم أسمعك…
أجهشَ بالبكاء…
للحظات..تجمد ذاك القلب…وتوقف العقل عن التفكير…وعجز اللسان عن السؤال…
قال: توفي البارحة ليلاً بحادث سير…وانقطع الاتصال…
هالة من السكون لبضع دقائق…
أدخل غرفتي..أقوم بتغيير ملابسي…أخرج من المنزل…أقود سيارتي لنصف ساعة…
أصل إلى مركز تسوق فاخر…
أجول المركز…أتفحص الواجهات بدقة…يقع نظري على فستان أسود طويل…أنيق…دون زخارف أو أي من التطريز…
أدخل المتجر..أقوم باختيار المقاس المناسب…أدفع الثمن…وأغادر…
باهظ الثمن!!!
لا بأس هي مرة واحدة في العمر…مناسبة لن تتكرر…
ذاك الفستان الأسود…يشبه تماماً الفستان الأبيض…
تتضاءل عنده الأثمان مهما بلغت…وتتعلق عليه الأحلام..ويرقص على أطرافه المستقبل زهواً..ننهي به كتابة آخر فصل من الوحدة…
هو منعطف لتتغيير أسماءنا…ومحل إقامتنا…ووضعنا الاجتماعي…
في طريق العودة…أمر على أحد صالونات التجميل..
أجلس على الكرسي…
“لدي اليوم مناسبة خاصة..أريد تسريحة أنيقة ومكياج خفيف بسيط دون تكلف…من فضلك”
أعود إلى المنزل…اتزيّا بحليّ طويل فضيّ…وقلادة فضيّة …أضع عطر جميل فارِه …
أصنع قهوة…أجلس في الصالة…أقوم بتشغيل إسطوانة ” أنا بعشقك لميادة الحناوي”…
أرتشف قهوتي بهدوء… وسعادة استثنائية…
سعادة بداية ونهاية…
بداية الخطوة الأولى نحو الحرية…
ونهاية سنوات طويلة من الأسر والخوف والسهر والحرمان….
حبيبي…
اليوم …هو يوم عرسي…عرس فستانٍأسود بهيّ…فستان أسود فتّان…
اليوم أستقبل المهنئين بموتك…اليوم أزفّك شهيداً لحبي..ذاك الوطن الذي ما عرف الاستقرار ولا الأمان…
اليوم أغني لك أجمل الألحان…
اليوم أحبك أكثر…اليوم أشتاقك أكثر…
منذ اليوم حبيبي…سأنام الليل الطويل…دون قلق…دون غيرة …ودون انتظار…
ما أسعدني حبيبي…
منذ اليوم حبيبي ..لن يعبرني وسواس ولا شك ولا ريبة…
منذ اليوم لن انتظر مرورك تحت الشرفة..بل سأقوم أنا بزيارتك في دارك…
يا لحظي الجميل…
غدا حبيبي…
سأمر على قبرك كل شروق…لا لأرثيك حبيبي…بل لأقدم إليك باقة من الزنبق…ونستمع معاًإلى فيروز…
وأنهي مغيبك…بباقة من السوسن…وآهات أم كلثوم…
ما أسعدني حبيبي….
منذ اليوم حبيبي…لن يجرؤ أحد أن يشاركني حبك…
فأنت لي وحدي…
ما أسعدني حبيبي…
منذ اليوم حبيبي…لا دموع…
بل فرح وشموع…
فقد مات حبيبي…مات القمر..فلا سهر بعد اليوم…لا سهر…
ما أجمل أن يموت القمر حبيبي…
لو تعلم حبيبي كم هي سعادتي اليوم…لمتَ منذ سنوات…
حبيبي…
ما أجمل أن نختم قصة حب…بفستان أسود أنيق…
اليوم سأرقص حبيبي…لا رقصة مودعٍ…بل عاشق محبٍ للحياة…مستقبلٍ نفحات الربيع بزهور وأحلام…
ما أجمل الأحلام حبيبي…
ما أجمل موتك حبيبي…
ما أجمل أن يكون لك عنوان ثابت…
مقر إقامة جبريّ…
أزورك فيه متى أحببت…دون استئذان…
حبيبي…
كم هي جميلة عيناك…
وما أجملها اليوم …وهي ساكنة…
ما أجملك راقدٌ تحت التراب…
ما أجملك حبيبي ..بثوبك الأبيض الجديد…
أغار منه…فهو سيتحد مع عظامك…إلى يوم الآخرة…
ما أسعده حبيبي…كم هو محظوظ….
كم هو محظوظ ذاك القبر الذي سيحضن روحك…
حبيبي…
أريد أن أقول لك سراً…قبل أن يبرد جسدك…
“كنت أتمنى موتك كل يوم كي أستريح”..
أرهقني الحب …حبيبي..اسقمني الانتظار…
مللت عد النجوم…واتعبتني الغربة…
أدماني الشوق حبيبي…
ذاك الشوق الذي لا يهمده موعد… ولا يبريه لقاء..
حبيبي…
كان من المفترض أن نلتقي غداً في المقهى الذي التقينا به أول مرة…
لا تحزن حبيبي…
سوف أذهب غداً…وأرتشف هذه المرة كوبين من قهوتنا…
ولكن بسعادة أخرى…
سعادة روحين اتحدا أخيراً بجسد واحد…سعادة هدوء بعد الضوضاء…سعادة طرب بعد الضجر…
فما أسعدني حبيبي…
ما أجمل الموت حبيبي…
حين يموت الجسد ..وتتخلد الذاكرة…
ما أجمل الفراق حبيبي…
حين تفترق الأجساد…وتتحد الأرواح…
ما أجمل الوحدة حبيبي…
حين أنفرد بذكراك…وآنس بغيابك…
اليوم حبيبي…سأعلق صورتك على الجدار…
أكحل عيناي بك …كل حين…
ألقي عليك السلام عند طلوع الشمس…وقبل النوم…
تخاطب وحدتي ضحكتك..فأشعر بالدفء…والسكينة..
ما أجمل موتك حبيبي…
ضجرت حضورك…فما أسعدني اليوم بغيابك…
اليوم سأتقن لقاءك…لقاء دون موعد…ودون ترتيبات مسبقة…لقاء ينصهر فيه خيالي…بجمال وداعك…
فما أجمل الغياب بعد اللقاء…
ما أسعدني اليوم حبيبي…
ما أجمل السعادة حين تأتي…دون تخطيط مسبق…
دون شروط…دون عناء…
حبيبي…
كنت أبحث عن السعادة عند الأطباء…وفي الكتب والمجلات…وها هي السعادة تأتيني اليوم على طبق من فضة…
ما أكرمك حبيبي..وما أروع عطاءك..
تهديني روحك…لأحيا السعادة…
ما أرقى جودك حبيبي…
فحياتك عطاء…وموتك سخاء…
فشكراً حبيبي…
حبيبي…
أعذرني…لن أحضر اليوم جنازتك…
سآتي عند المغيب…بعد أن يفارقك الأهل والأصدقاء…
ويذهب كل واحد لمتابعة أموره…
سآتي لؤونس وحدتك…وأحتفل بموتك وحدي…
فأنا لا أحب أن يشاركني فرحتي بموتك…أحد…
ما أسعدني اليوم حبيبي…
ما أعظم سعادتي اليوم حبيبي…
سآتي اليوم موعدنا …وأنا على يقين…
أنك ستكون بانتظاري …هناك…
قبلاتي …لموتك حبيبي…