كوميديا الريف “عم عبدالله التاجر البسيط” … بقلم د.يونان وليم
فى أحد الأيام التى تتسم بالهدوء والسكينة _النادرة الحدوث_ وأنا لا أزل فى فترة تكليفى فى إحدى الوحدات الصحية فى أعماق أعماق الريف وأنا لا أبالغ مطلقا فى وصفها بذلك من جهة العمق المكانى وكذا البعد الزمنى عن الحضارة وأشكال المدنية ؛ فهو ريف بدائى للغاية والناس فيه يعيشون عيشة أقرب إلى شكل الحياة فى الخمسينات أو الستينات من بساطة فى المسكن.. فغالبية تلك البيوت مبنية من الطوب اللبن يغطى أسقفها جريد النخل المتشابك مع بعضه مثبتا ومتماسكا بخليط من الطين وطمى النيل ..وكذا بساطه أهله من سذاجة وبدائية فى التفكير وعشوائية المنطق .. قلما تجدها فى أى مكان آخر..
_نحو الغروب جاءت إمرأة شابة بسيطة المظهر مهرولة إلى فى العيادة باكية منزعجة تطلب المساعدة.. “أغثنا يا دكتور فإن زوجى مريض للغاية.. فقد داهمته نوبة الربو ”
فسألتها “أين هو الآن؟”..أجابت “إنه خارجا عند الباب” _تقصد باب الوحدة الرئيسى_فأسرعت إلى الخارج لأجد رجلا مسنا بسيطا بملابس رثة ذو لحية طويلة_ لا تبدو كلحى المتدينين مطلقا_ لحية تكسوها ملامح التعب والشقاء الطويل فى الشوارع تحت أشعة الشمس الحارقة وعرق الجبين المتساقط عليها..يركب حمارا قويا تبدو عليه_أى الحمار_الأناقة والإهتمام أكثر من صاحبه المسكين بكثير..وكان يلتقط أنفاسه بصعوبة شديدة ويدفع بقفصه الصدرى إلى الأسفل حتى يجبر الهواء على الخروج فتنتفخ العروق فى رقبته وتحتقن عيناه بفعل ضغط الصدر المرتفع على أوردته.. ويدفع بصدره إلى الأمام للسماح للهواء الجديد بالدخول وهو لا يقوى على الكلام بجملة كاملة مفهومة؛ يهمهم فقط بكلمات متقطعة ويشير بيديه نحو ما يريد بديلا عن الكلام ..
أسرعت إليه وبمساعدة آخرين أنزلناه من على الحمار بسرعة نحو غرفة الطوارئ بسيطة التجهيزات ؛ ووضعت كمامة الأكسجين على وجهة وأسرع الممرض فى تحضير محلول “موسع للشعب الهوائية” ووضعه فى مستودع فى نهاية كمامة أخرى ليتم إستبدال الأولى بالثانية ..وبدأ رذاذ البخار فى التغلغل داخل رئتى الرجل بسرعة ليعطى إتساعا لتلك الأنابيب الضيقة التى حجبت دخول الهواء إليها.. وفى دقائق ليست بكثيرة بدأت علامات التحسن والراحة تظهر أخيرا على وجه الرجل المسكين فإنخفضت معدلات التنفس السريعة لديه وكذا ضربات القلب المتسارعة عادت إلى طبيعتها..
خلع الرجل عنه الكمامة بعد عشرون دقيقة تقريبا وراح يتنفس هواءا طبيعيا طالما تاق إليه لولا ذاك المرض اللعين الذى إختزل أنفاسه داخل كمامة من المطاط وحال دون عيشه كسائر البشر ..وبدأ أخيرا فى الحديث على نحو طبيعى ..قائلا
“شكرا لك يا ولدى على علاجى “..فأبتسمت وقلت له “لا شكر على واجب يا عم ..سامحنى فأنا لم أعرف إسمك بعد..”
أجاب “عبدالله”..
فسألته “ماذا تعمل يا عم عبدالله”
أجاب “أنا أكبر تاجر حمير فى هذه المنطقة كلها ..ألم تسمع عنى؟”
أجبته وأنا مبتسما ” صدقنى لم أعمل يوما فى تجارة الحمير قبل عملى فى مجال الطب ؛حتى أتعرف على مشاهير تلك التجارة ؛ وآخر حمار أو حصان_ لا أذكر_ كان لدى فى طفولتى مصنوعا من البلاستيك” وهذة آخر علاقة لى بالحمير..
ضحك عم عبدالله هو وزوجته ومن معهم .. وهم بالرحيل..
وقبل مغادرته أوصيته بضرورة تناول العلاج الذى
وصفته له فى الميعاد دون إهمال منعا لتكرار حدوث تلك النوبات القاسية التى قد تودى إحداها بحياته_لا قدر الله_
فشكرنى ثانية ثم إستأذن بالرحيل..
وفى الصباح التالى نحو الظهيرة جاء “عم عبدالله ” إلى فى العيادة مبتسما ويبدو على ملامح وجهه التحسن الواضح بالإضافة إلى شيئ من السعادة يلمع فى عينيه..فسلمت عليه وأخبرته إنى سعيد بلقائه لأنه تحسن كثيرا وبهذه السرعة المذهلة منذ أن رأيته أمس حيث كان فى حالة لايرثى لها..
فحدثنى قائلا ” الحمدلله ..ومن عاداتنا أن نرد الجميل لأنك أنقذت حياتى لذا وجب على أن أحضر لك هدية ” ..فأجبته “أنا أؤدى عملى يا عم عبدالله ولا أنتظر أى شئ فى المقابل”
إصفر وجه الرجل وشعر بالإحراج وقال “أرجوك يا دكتور لا ترد هديتى”..
ترددت فى الموافقة لكنى قبلت فى النهاية رفقا به..
وقلت له..”لا مانع يا عم عبدالله وشكرا على هديتك.. حتى قبل أن أراها” ..
فأمسك بيدى متجها نحو المفاجأة ..بالقرب من الباب الرئيسى ..وجدت حمارا مربوطا من لجامه قريبا من الحديقة ..حمارا ضخما ناصع البياض ذو قائمتين كبيرتين تظهر عضلاته الضخمة لا أدرى إن كان حمارا أم بغلا .. يشبه “بيجاسوس” الحصان الطائر فى الأساطير الرومانية فى أناقته لكن دون جناحين…لكنى إستنتجت إنه مجرد حمار كما قال لى فهو خبيرا بهذه السلالات بالتأكيد..
“ما رأيك ؟” سألنى والإبتسامة تكسو وجهه..
فأجبته “رأيى فى ماذا ؟”…أجاب “الحمار ؟”..إنه من أفضل أنواع الحمير عندى.. هو ملكك الآن ..فهو سيكون خير معين لك يساعدك على التنقل داخل البلدة فى حالة الكشف على مريض فى بيته ممن لا يقووا على الحضور للعيادة..
شعرت بنوبة من الضحك تكاد تمزق ضلوعى من محاولة كبتها ..لكنى منعت نفسى حتى لا يشعر العجوز بالحرج ورسمت علامات الجدية على وجهى بصعوبة فى موقف لا يحتمل أكثر من الضحك المستمر لو أطلقت له العنان ..
لكن فى النهاية ..”حمار…لطبيب..ماذا أفعل بذلك الحمار يا عم عبدالله بالله عليك؟ ..تسائلت فى نفسى..
شكرت الرجل البسيط على هديته ..وإنطلق فرحا لأنى قبلت هديته ومضى لحال سبيلة..
ياللورطة ماذا سأفعل بذلك الحمار فى محلى عملى هذا ؛ صحيح إنه حمار رائع وأنيق جدا ولا يبدو كسائر الحمير لكنه يبقى فى النهاية..حمار…ماذا سأفعل به ..هل أبيعه أم ماذا؟.. لكن نظرا لأنه حمار مميز لو بعته فى السوق بالتأكيد سيعلم العجوز بتلك الفعله.. وسيأتى به لى مرة أخرى مثلما حدث فى قصة “حذاء جحا”..
هل أضع له السم فى الأعشاب لأتخلص منه نهائيا؟… كلا..فربما يحزن العجوز عليه بشدة وقد يصاب بنوبة قلبية تقضى عليه ..وسوف تروى القصص والروايات عن “الطبيب الذى قتل الرجل وحماره”..
..يبدو لى من النظرة الأولى إلى هذا الحمار إنه حمار جيد ينحدر من سلالة أصيلة من الحمير التى ربما شارك راكبيها فى بطولات أو ملحمات وطنية..لذا وجب الإحتفاظ به حقنا للدماء ومنعا للفضيحة ..
بعد تفكير طويل قررت تسليم مسئوليته إلى “عم حسن” حارس الوحدة ليتولى أمره على نحو جيد.. فهذا أفضل الحلول …
_وصدق الرجل؛ وبالفعل ساعدنى حماره كثيرا ..فلقد إستطاع أن يرسم على شفتى إبتسامة فى كل إطلالة يوم جديد..
كلما نظرت إليه يوما بعد يوم تذكرت بساطة وطيبة لم يعد من السهل أن تجدها فى هذه الحياة حتى مع البحث الدؤوب عنها….
_____________
(الحاج عبدالعاطى _وسبحان العاطى)
_يسكن الحاج عبدالعاطى بجوار الوحدة الصحية منذ زمن بعيد وهو رجل ميسور الحال لدية مجموعة من توكيلات السيارات ويمتلك منزلا كبيرا بحديقة واسعة وفسيحة يجرى ويلعب فيها أبنائه الخمسة والعشرون ..نعم خمسة وعشرون…فهو متزوج بأربعة نساء من بنات أعمامة وأخوالة؛ حيث أن هؤلاء القوم من عاداتهم الزواج من بنات نفس العائلة فليس مسموحا بالمرة أن تظل فتاة تعدت العشرون من عمرها أو مطلقة أو أرملة بدون زواج وعلى شباب العائلة البواسل أن يقوموا بدورهم الفعال والمنتظر فى لم شمل العائلة و تخليص الفتيات من عار العنوسة_كما يعتقدون_ والإكثار من النسل بالطبع هو نوع من التباهى لديهم لما له من عزوة وسلطان..
فعندما تمر من أمام منزل عبدالعاطى تشعر كأنك تجاوزت “مدرسة عبدالعاطى المشتركة” لجميع المراحل الدراسية تبدأ من kg1 حتى المرحلة الثانوية ..
_وفى أحد الأيام قرر عبدالعاطى أن يرسل إبنه الأكبر”أحمد” فى مهمة خاصة ليجمع كل هذا أفراد القطيع من الأطفال فى سيارة كبيرة إلى المدينة ليشترى لهم إحتياجاتهم وملابس جديدة قبل حلول العيد ..
فقام أحمد بجمع الأولاد والبنات واركبهم إحدى السيارات التى لأبيه ثم قام ب “عد الركاب” فوجدهم “تسعة وعشرون” ..!!..كيف ذلك؟!! أليس أبناء أبيه أربعةوعشرون غيره ..إذن من أين جاء الآخرون؟!..
أدرك بسرعة أن هناك أربعة من الأطفال بحسبة بسيطة وأن غرباءا قد تسللوا إلى داخل السيارة وإندسوا وسط أبناء عبدالعاطى_من أبناء الجيران_ لينالوا نصيبا من الكسوة الجديدة وما لذ وطاب من مشتروات العيد…
فصاح أحمد فيهم “رجاءا ..من ليس من أبناء عبدالعاطى فلينزل فورا منعا للإحراج..”
ساد الصمت وتعالت أنفاس الأطفال ونظراتهم البريئة لبعضهم البعض كل منهم يتهم الآخر بتهمة عدم الإنتساب ل عبدالعاطى..
صاح أحمد مرة ثانية وثالثة ورابعة مكررا نفس السؤال حتى إنبح صوته ..لكن دون جدوى..فهناك أربعة من المجرمين قد قرروا عدم الإعتراف بالجريمة ولن ينفع معهم لا التهديد ولا الوعيد ..
_من الطريف بالطبع ألا يتعرف أحمد على إخوته من أبيه مهما زاد عددهم ..فذهب إلى أبيه عبدالعاطى وهو يشعر بالحرج قليلا ليخبره بمثل هذا الأمر لإستشارته فى إيجاد طريقة لحل تلك المشكلة العويصة..فنظر عبدالعاطى إلى إبنه البكر نظرة ثاقبة فيها من اللوم ما جمد دم أحمد فى عروقه..وهم عبدالعاطى
على الفور بالتحرك إلى موقع الجريمة فاحصا أركانها كمن يحمل فى يده عدسة كبيرة ومعدات لرفع البصمات شبيها بأدوات المفتش “كرومبو” الشهير..
_نظر عبدالعاطى إلى الأولاد نظرة فاحصة آملا أن يتعرف على أبنائه بسهولة وتلقائية فإن لم يستطع بعينيه فبالتأكيد سوف يميزهم بقلبه..إنها الأبوة يا سادة..
..وكانت الصدمة الطريفة بل هى إحدى النكات الواقعية ..عبدالعاطى لا يستطيع تمييز الغرباء من بين الأبناء ..!! يا لسخرية الأقدار..!!
ولم يكن أمامه سوى إحدى طريقتين لمعرفة ذلك.. أولهما أن يحضر زوجاته الأربعة لتقوم كل منهن بإلتقاط أبنائها من بين أطفال الأخريات..وثانيهما أن يرسلهم جميعا إلى المعمل الجنائى لفحص DNA ..
لكنه فطن إلى طريقة أبسط وأقل إجهادا للعقل من كل هذا..فليأخذهم أحمد جميعا إلى المدينة وليشترى لهم ما يحتاجونه فيفرح الأطفال كلهم ..ليدعو الجميع لعبدالعاطى بطول العمر..وبكثرة النسل