مغامرة طبيب فى الغابة … بقلم د. يونان وليم
فى نحو الساعة الثانية والنصف أو الثالثة صباحا ولا يزال سواد الليل الحالك يغطى السماء بأكملها عدا القليل من نور النجوم الساطعة وبعض أضواء المصابيح البسيطة فى أعمدة الإضاءة بالشوارع المعتمة ؛ وبينما أنا غارق فى نوم عميق يداعب عقلى ووجدانى حلم جميل هادئ تصحبه موسيقى تصويرية مبهجة ؛ أتقلب على فراشى معتبرا إياه ك “ساونا الجيم” لأنال أكبر قسط من الراحة فى أقل وقت ممكن قبل شروق الشمس وتكدس المرضى أمام باب العيادة لنبدء يوما جديدا ؛ راضيا بما أنجزته من عمل الخير فى علاج مرضاى_ بالوحدة الصحية الريفية البسيطة فى أعماق الريف المصرى _وما إكتسبته من حسنات نتاج دعواتهم اللطيفة لى ولأبى وأمى وزوجة المستقبل وأبنائى فى المستقبل أيضا ….
_وفجأة قاطع الحلم الجميل صوت طرق على الباب_قبيل شروق الشمس_ يشبه طبول الحرب الوشيكة؛ فقط كان ينقصهم صوت البوق الذى يبوق به ذلك الجندى الذى يمسك بقرن الجاموس ؛ وصهيل الأحصنة التى تجر المركبات الحربية بدروعها الثقيلة ..
_قفزت من على السرير بسرعة البرق لأقطع على الطارق هذه الوصلة من السيمفونية الحربية المثيرة بالنسبة له والمزعجة جدا بالنسبة لى متسائلا فى حذر “من بالباب وماذا تريد ؟”
_الطارق “إفتح يا دكتور ..إفتح” بلهجة فيها من الإلحاح ما يثير الشك والريبة
_فتحت الباب وإذا بأربعة أشخاص كالغيلان ضخام البنية بوجوه كالحة وشوارب متدلية خارج حدود الوجه لمسافة تقترب من البوصتين على الأقل
_أنا متسائلا “من أنتم ؟” بصوت ممزوج بالغضب والقلق فى آن واحد
_ “والدتنا مريضة يا دكتور ؛ من فضلك تعالى معنا للكشف عليها ”
_”حسنا ؛ أدخلوها لغرفة الكشف بالعيادة وأنا قادم للكشف عليها بعد دقائق فور إنتهائى من تغيير ملابسى.”
_”يا دكتور ؛ إنها بالمنزل طريحة الفراش لاتستطيع الحراك ؛ فتعالى معنا للكشف عليها هناك_رجاءا_ ولا تقلق فلدينا سيارة بالخارج فى إنتظارك لتوصيلك ذهابا وعودة ..
_محدثا نفسى “يا لها من ورطة غير معلومة الأبعاد ومهمة محفوفة بالمخاطر ”
_”أين تقطنون ؟”
_الغيلان : “بالغابة يا دكتور”
_”أين ؟”
طرحت عليهم هذا السؤال وأنا أعرف تماما أين هى الغابة بالطبع فأنا لى فى هذا المكان “نجع …” قرابة العام الكامل وقد سمعت كثيرا من الحكاوى والروايات عن هذا المكان الأسطورى الذى كان سابقا غابة بالمعنى الحرفى الدقيق من أشجار شاهقة الإرتفاع والتى تتلاقى فيها الأغصان المتشابكة كالعشاق فتحجب أشعة الشمس فى عز النهار ؛وعما تسكنه من وحوش ضارية كالأسود والنمور كتلك التى فى غابات أفريقية ؛ بالطبع هذا ليس سؤالا إستفهاميا بالتأكيد ولكنه إستنكاري يطلقه لسانك عندما يرفضه عقلك وتترجمه ملامح وجهك مشيرا لهم بالقلق المشابه لذاك السؤال الذى يحتاج لإجابة واضحة..
_حسنا “إنتظرونى دقائق بالسيارة”
_”رجاءا بسرعة يا دكتور”
_ أغلقت الباب وأنا فى حيرة وخوف شديدين ؛ فأنا لست بجبان أبدا وقليلا ما شعرت بتلك المشاعر من الخوف فى حياتى ولكن هذا الأمر بالفعل يقلقنى وأشعر حقيقة بالخوف ..نعم أشعر بالخوف فالساعة المتأخرة من الليل ؛ وجوههم المريبة ؛ وإصرارهم على أصطحابى للكشف فى ذلك المكان المجهول والغابة !!! ؛ كل ذلك مخيف حقا وأنا لا أستبعد أبدا كونهم لصوص وقتلة جاءوا لأجل هدف واضح وهو سرقتى ثم قتلى وإخفاء جثتى كى لا يعثر عليها أحد فتختفى آثار الجريمة وتذوب أركانها_ فى الغابة_؛ لكن نداء الواجب وصوت العقل الذى نبهنى فجأة وأخرجنى من مخاوفى إلى أرض الواقع والذى يضع أمامى إحتمالا حتى لو كان ضعيفا حتى بحقيقة هذا السيناريو الذى ذكروه والوجود الفعلى لذلك الشخص المريض ..
_رفعت عينى إلى السماء مصليا “لتكن إرادتك يارب” ؛ ثم قمت بتغيير ملابسى بعد أن غسلت وجهى ورأسى بماء دافئ ليساعدنى على الإفاقة وإستيعاب ما يحدث وإدراكى السريع إنى تركت ذاك الحلم على فراشى وتلامست مع أرض الواقع او الكابوس الواقعى بالمعنى الأدق..
_ أغلقت باب إستراحتى وأحسست كأننى أودعها الوداع الأخير وسرت بخطى ثقيلة صوب سيارة “الغيلان” ؛ فأسرع أحدهم وفتح لى الباب الأمامى بجانب أخاهم السائق ؛ فركبت وتحركت السيارة نحو مكان لم أكن أبدا أنوى الذهاب إليه لا نزهة بين أشجار الغابة ك “طرازان” ولا إستكشافا للمجهول ك “كريستوفر كولومبوس”..
سرنا نحو المجهول بسرعة عالية حتى إختفت منازل البلدة جميعها وظهرت الأشجار الكثيفة ومع ظهورها قلت الأضواء المحيطة وإختفت بالطبع غالبية النجوم المنيرة وجميع أعمدة الإنارة ؛ فقط ضوء كشافات السيارة الأمامية هو ما يرشدنا فى هذا الطريق الوعر الغير ممهد ؛ وراحت السيارة تتأرجح بنا كسيارات الملاهى فى “دريم بارك” للأمام تارة وللخلف تارة أخرى صعودا وهبوطا لمسافة كبيرة ولمدة تزيد عن النصف ساعة حتى بدأت أشعر بالدوار والغثيان ؛ فمع كل ارتفاع وهبوط مفاجئ كنت أشعر كأننى فقدت عاما أو عامين من عمرى نتيجة ثقب أصاب “العمر” كذاك الذى يصيب إطار السيارة فيفرغ الهواء تدريجيا من داخلها ؛ وكنت سارحا طوال الطريق أتذكر حياتى وما صنعته من خير ومن شرور ؛ لكنى كنت أحاول جاهدا تذكر تلك الشرور التى صنعتها والتى يكون عقابها الموت بهذه الطريقة القاسية ؛ …نعم تذكرت الآن فقد طلبت منى والدتى يوما أن أذهب إلى الماركت لأبتاع لها جبنا وبيضا وعيشا طازجا لكنى لم أذهب وأخبرتها كذبا أن الماركت مغلق للإصلاحات المفاجئة وخرجت للتنزة ولعب البلايستشن مع أصدقائى ..لكن هل هذا الذنب يستحق الموت ..بالطبع لا.
ربما لأنى كنت بالثانوية العامة أضع بين صفحات كتب الدراسة مجلات” ميكى وبطوط” وأكتب الشعر غزلا فى بنت الجيران ذات الرموش الساحرة ؛ مدعيا أنى أذاكر دروسى؟
ولا ذاك …فلقد نجحت فى الثانوية وحصلت على أعلى الدرجات..
ربما كذا وكذا وكذا …
_”دكتور….يا دكتور….تفضل يا دكتور لقد وصلنا المنزل”..
_لقد قاطعنى ذاك الوغد بعد أن قاربت على معرفة الذنب المنشود ؛ والآن بمنتهى البساطة سوف أموت دون أن أعرفه …هذا ليس عدلا …
فلا مانع عندى أن أموت لكن _عفوا_ لابد من توضيح الأسباب (بالطبع الموت يأتى دون أسباب ولكن هنا على سبيل الفكاهة فقط)
_ كرر الرجل نفس الطلب “تفضل يا دكتور” حتى بدت على وجهة علامات الإستغراب ..هو يشعر بالإستغراب (يا للغرابة)
_ نزلت من السيارة وسألت اخاهم السائق أين المنزل ؟ فأشار بيده نحو تبة عالية بين الأشجار يوجد عليها حوالى ثلاثة أو أربعة منازل صغيرة مبنية من الطوب اللبن يكسوها جزء كبير من الطين والتبن كنوع من الزينة ؛
تحركت نحو التبة صعودا على ما يشبه السلالم او الدرج المصنوع من نفس خامات تلك المنازل البسيطة الصنع حتى وصلت لباب المنزل المنشود فتقدم أحدهم طارقا الباب ثم دفعه بقدمة فانفتح ؛ وهنا تسارعت ضربات قلبى وأحسست بما يشعر به مريض ضغط الدم المرتفع أو ذاك الذى يعانى من آلام الذبحة الصدرية من ألم بالصدر وصعوبة بالتنفس ؛ وكنت على وشك إخبارهم إنى مريض بالقلب وعليهم إحضار أقراصى المهدئة لآلام الذبحة أو بطلب الإسعاف
لولا إنى رأيت إمرأة عجوز ممددة على سرير بسيط تحيط بها مجموعة من النساء إحداهن تمسك بكوب ماء تضعه عند شفتيها لتسقيها وأخرى تفرك بكفها ظهر العجوز لتساعدها على إلتقاط أنفاسها المتقطعة والأخريات يبكين ويولولن ..
_هنا صرخ فيهن أحد الغيلان المحيطة(يبدو أنه الغول القائد) صرخة مدوية فأفسحن الطريق دون نقاش للطبيب القادم من كوكب المريخ ليصنع المعجزات بلمساته السحرية قبل عودته إلى المريخ فى رحلته الإستكشافية للأرض ..
إطمئن قلبى أخيرا وأحسست براحة لم أشعر بها منذ أكثر من ساعة مرت بى كأنها دهر لا ينتهى؛ أخرجت سماعة الكشف وجهاز قياس ضغط الدم ومقياس الحرارة وأنهيت الكشف فى غضون عشرة دقائق ثم كتبت وصفة العلاج والتحاليل المطلوبة فى ورقة أخرى ؛ ثم رددت جملة الأطباء المعتادة التى يقولونها للمريض بعد الإنتهاء من الكشف _ربما لتنبيهه أن وقت الكشف قد إنتهى حتى لا يسترسل مجددا فى الحديث عما ذكره سلفا _ “١٠٠٠ سلامة يا ستى الحاجة” ولا أعلم لماذا ألف سلامة تحديدا بينما سلامة واحدة كافية جدا للشفاء .. المهم إننى لملمت بل ألقيت أجهزتى ومعداتى السابق ذكرها فى شنطة يدى وهرولت للخروج ؛ هنا إستوقفنى قائد الغيلان قائلا فى حدة وبملامح وجه عصبية “لا يمكن يا دكتور”
_ تسائلت “ما هو الغير ممكن _حضرتك_؟”
_”أن تهيننا هكذا بأن لا تشرب أى مشروب فى بيتنا ؛ فنحن لسنا ببخلاء أبدا”
_ أجبته بصوت متقطع “كلا يا عزيزى_العفو_ لستم بخلاء بالمرة بل انتم من أكرم القوم طبعا وخلقا ؛ لكن طبيبى الخاص نصحنى بعدم تناول أى مشروب بعد الثانية عشرة مساءا”
_ إبتسم هذا الوغد وتغيرت ملامحه العابثة ولولا صعوبة الموقف لإنفجر ضاحكا..
_ تركت المنزل وتوجهت نحو السيارة نزولا من التبة العالية ؛ هنا بدأت الشمس فى الشروق وظهرت أشعة الضوء كخيوط منسوجة تتخلل أغصان الأشجار كبريق أمل جديد وولادة حياة …
انها صورة تشبه تلك الصورة التى يمسك فيها طبيب الولادة طفلا حديث الولادة بين يديه وهو يرتدى قفازين معقمين ويضع كمامة على فمة وغطاء رأس ..
لكن صورة اليوم معكوسة تماما فالطبيب هنا هو ذاك المولود حديثا…