أهم الأخبارثقافة و فن

قصة نبع الشباب والوهم اللذيذ – بقلم د. يونان وليم

في ولاية فلوريدا الأمريكية تحديدا فى مدينة “سان أوغستين” يوجد نبع فيها يسمى “نبع الشباب” تزعم الأسطورة بأنه لدى مياهها القدرة على إعادة الشباب المفقود لكبار السن مرة أخرى ولديها أيضا القدرة على علاج جميع الأمراض بالأخص تلك المصاحبة للشيخوخة ، وكان الرحالة الأسباني “خوان بونثى دى ليون” قد أضاع حياته هو ورجاله بحثا عن هذا النبع حتى وجده فى فلوريدا ، فعندما يقرر الانسان تصديق الخرافه والوهم تتحول فى عقله الباطن إلى حقيقة راسخة رسوخ الثوابت الممتزجه بالوجدان ، وكان الهنود الحمر (السكان الأصليين) يسكنون هذا المنطقة وبالطبع لم يكن أمرا سهلا أن يتخطاهم دون أن يستخدم مدافعه وبنادقه وسيوفه ، فسالت دماء الأبرياء على ضفاف النبع المقدس بدم بارد لأجل غاية مقدسة فأصبح “هدفا نبيلا ملطخا بالدماء” وكما يقر مكيافيللي بنبل الهدف الذى يبرر استخدام كل الوسائل الممكنة المشروعة منها أو غير المشروعة بالطبع لتحقيقه، فكم من جرائم ترتكب فى حق البشرية بإسم هذا المبدأ الفاسد ! فلا داعى إطلاقا للتفكير ولو للحظة واحدة فى هؤلاء الهمجيين البرابرة فلقد جاء لهم بالحضارة كلها لينتشلهم من الجهل والبربرية ويبنى حضارة الرجل الأبيض وينشر ثقافته الجديدة لتنوير العقول ، وبالطبع لكل حرب ضحاياها،  فغنائم النصر لها قدرة عجيبة على تخدير الضمير الإنسانى وشل حركة العقل السوي الذى يميز الإنسان عن باقي المخلوقات الغير عاقلة ، ففي أحد المرات سئله أحد  أشهر السفاحين في أمريكا من قبل أحد الأطباء النفسيين عما إذا كان في يوم قد أحس بأي وخزات للضمير وهو يقتل ضحاياه  فأجاب بدم بارد “بينما أنا اقوم بذبحهم أشعر بنشوة عارمة وبلذة انتقام منعشة  لكن أرى وجوههم فى لحظات موتهم الأخيرة تطاردني في منامي ، فأنا أذكرهم جميعا بتفاصيل وجوههم  “يا للغرابة”  فمن أجل لذة الإنتقام أو لأى هدف آخر يتغافل عن صراخ هؤلاء الأبرياء ويكمل مجزرته  ..!

وصل “دى ليون ” للنبع فى سعادة غامرة لا توصف فتجرد فى لحظات من دروعه وأسلحته الحربية وأيضا من ثيابه “الوهم يعرى صاحبه ويفضحه” وأغمض عينيه ورفع يديه عاليا فى نشوة لا توصف كأنه يخبر السماء بأنه قد نجح فى التحدى وهزم الزمن وسار بخطى زهو المنتصر نحو المياه حتى دخل إلى العمق فشعر بدفئها وبدأت شرارة النشاط والحيوية تدب فى جسده البارد فضحك بصوت عالى جدا ساخرا وكأنه ينظر الزمن مطأطأ الرأس فى إنكسار وخزى فالزمن لم يهزمه أحد قط ولكن هزمه “دى ليون” (كما يعتقد)

والطريف فى الأمر أن هذه المياه تتميز بدفئها فحرارتها تبلغ حوالى 22 درجة مئوية فهى تقوم بتنشيط الدورة الدموية شأنها شأن أي مياه دافئة لا أكثر ، أيضا إحتواء مياهها على نسبة عالية من البوتاسيوم والكبريت فهي تساعد على الاسترخاء وراحة البدن وفوائد أخرى لكن بالطبع ليست اعادة الشباب إحداها ، فراح “ليون” يسبح فى المياه من هنا الى هناك مغطيا جسده بالكامل فى المياه وهو يرقص بفرحة الأطفال وظل على هذا الحال لساعات طويلة ، وقف رجال “ليون” خارج المياه مراقبين ما يحدث بشغف فى انتظار “المعجزة” المنشودة لساعات وساعات ولكن لم يروا أى تغيير ملحوظ على جسد “ليون” فلا تزال علامات الشيخوخة عليه ، نصب الرجال خياما حول النبع وتناولوا غذائهم وهم يشاهدون “ليون” يسبح فى المياه من هنا إلى هنا ولكن دون جدوى حتى فقدوا الأمل وظهرت علامات خيبة الأمل على وجوههم…لكن “ليون” لم ييأس بهذا السهولة فهو لم يقطع كل هذه المسافات وعبور البحار والمحيطات من أجل وهم ،  فظل لساعات طويلة فى المياه منذ الصباح حتى غروب الشمس ، فإحترق جسده من حرارة الشمس وأصيب بحمى وأصابه الإعياء وبدأ يفقد وعيه فتدخل رجاله وأخرجوه من المياه وبذلوا كل الجهود فى علاج الحمى”ضربة الشمس” التى أصابته لكن دون جدوى ، يا لسخرية القدر … وتوفى “ليون” فى صباح اليوم التالي وهو يهذى بكلمات غير مفهومة عن نبعه المقدس.. وأنا شخصيا لا أعتقد أن الحمى هى سبب وفاة “ليون” وإنما خيبة الأمل ..

أخذ رجال “ليون” جثته ودفنوها قرب النبع وكتبوا عليها لافته “هنا يرقد ليون العظيم قاهر الشيخوخة” (يا للعجب !) وجمعوا أشيائهم ورحلوا من نفس الدرب الذي جائوا منه سيرا على الأقدام وسيرا على دماء من قتلوهم..

الآن وعلى الرغم من الإيمان الراسخ  بحقيقة عدم وجود نبع الشباب الشافي هذا؛

إلا أن كثير من البشر من كل أنحاء العالم جاءوا إليه وبالأخص كبار السن لعلهم يشفون ، فى حين يقتصر استخدامه حاليا  ك “ساونا” أو “جاكوزى” ومنتجع سياحي لا أكثر وأنا أقترح عليهم تسمية تلك النافورة “خيبة أمل دى ليون” …

لقد أعجبنا الوهم جدا (أنا شخصيا  أعجبتنى الفكرة ) فبنينا قصور على الرمال ورسوما على المياه وحفرنا آبارا لا تضبط ماءا ، على الرغم من عدم منطقية الفكرة إلا أنها تداعب العقل وتجلب السعادة وتعطي لذة التحدي نحو تحقيق المستحيل …

أى شباب يمكن أن يعيده القليل من الماء ؟!  أتعود عقارب الساعة للخلف لتمنحنا فرصا جديدة للمتعة أو للتوبة وإعادة الحياة …!

 

ما أجمل وقار وإتزان الشيخوخة فهي  ليست مرضا أو وصمة عار نسعى للتخلص منها بمحوها أو طلائها بفرشاة دهن الشباب ، ما أجمل حكمتها عندما تتحدث عن خبرة الأيام والمواقف .

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى