أهم الأخبارثقافة و فن

حزنٌ و مطر … للشاعرة خولة سامي سليقة

 

أستحضرُ دهشةَ المطر ..

البكاءُ و السّيرُ تحت المطر يخرجانِ من المعطف ذاتهِ، من شعلة القنديلِ المرهَق ليلاً كلما أرخيتُ

جفنيّ أنصت إلى وقع حوافر خيلهِ، بينما صوتها العذب يشدو: 

” و طموحي أن أمشي ساعات معك ..  تحت المطر

عندما يسكنني الحزن و يبكيني الوتر . “

فوجئتُ حين قرأت يوماً أنّ نصف دموعنا تنهمر جرّاء الحزن، فقط عشرون بالمئة من الدموع

ترافقُ الفرح لتأتي بقية الأسباب بعدها، و إذا نظرنا إلى تركيبة الدمع سنجد أنه مواد وجب على

أجسامنا التخلص منها و تدعونا الدراسات إلى عدم التردد في البكاء، ما دام الأمر علاجاً

و تطهيراً . إذاً لا نبكي في الحقيقة لأننا تماماً عاطفيون ! و كيف نطهّر قلوبنا التي لا تملك دموعاً

إذا ؟

قد نجد طرف خيطٍ  لو أنا راقبنا الناس أثناء انهمار المطر و بعده، مع خروجهم و سيرهم تحت

حباله الطويلة، تبتلّ ثيابهم، أحذيتهم، أهدابهم، ضفائرُهم، أحلامهم، أوراق قصائدهم و قلوبهم

اليابسة أيضاً. المطر فينا يوقظ البكاء  حين نكون على شفير دمعة :

ففي بابي يرى أيلول يبكي

و يسعل صدر موقدتي لهيباً

فيسخنُ في شراييني النّجيع

و تذهل لوحةٌ .. و يجوعُ جوع.

شتاء نزار حزنٌ و انتظار كما هو في معجم الكثيرين، شارعٌ ينتهي بوجه الحبيبة الغائبة، بعضنا

يبكي في موعد و عندما لا يجد للبكاء موعداً، لكن كلنا ننسحب من أسمالنا البالية ، أفراحنا

المبتذلة، نبحث عن أوجاعنا الصغيرة في زجاج المطر الرقيق خلف صدقهِ الكاذب، كما هو

السياب :

أتعلمينَ أيَّ حُزْنٍ يبعثُ المَطر

و كَيفَ تَنْشج المزاريبُ إذا انهمَر

و كيفَ يَشْعُرُ الوَحِيدُ فِيهِ بِالضّيَاعِ بِلا انْتِهَاءٍ

كَالدَّم الْمُراقِ، كَالْجياع كالحُبِّ، كَالأطْفَال ، كَالْمَوتى

هو المَطر .

في الواقع لا علاقة للشتاء بالحزن و البكاء، كما لا علاقة للفصول المتعاقبة بالمشاعر، الفصول

تجرّ عربة الحياة و الشتاء أحد خيولها، أما الحزن فهو بوابة الحياة التي تعبر منها خيول الأرض

 قاطبة .

هنا نختبئ تحت الوهم يفترش وجوهنا، كل خصلة شعرٍ تنحاز إلى قطرة من المطر، تمتزج بالدمع

الهارب خلسة. نعم ،نريد أن نبكي على نايات الآخرين ،نستعير عيون الطبيعة ما دمنا لا نترك لها

من كحل عينيها شيئاً، نحن مخلوقات لا تقبل الحزن طارقاً بل مقيما.

إنّا نحبّ الحزن أكثر .

إنما لن ننكر أنه ثمة أمرٌ يحدث فينا كلما هطل المطر، ترى الناس يدخلون أفواجاً بيت الطبيعة،

أكثر نقاءً مرهفين السمع إلى همسات الأرض، الجذوع و الأغصان المبللة، تبعثر دموع السماء

أشجانهم و الذكريات، يحتاجون أكثر إلى الدفء و تنشط في عقولهم محطات القطارات

 و المطارات، المسافات البعيدة و الرسائل، يحصون صامتين من ودّعوهم و من لم يسعفهم

الوقت لوداعهم قبل الرحيل الأخير.

إنه دفقُ المطر يطردُ من كهوفنا إنساناً خجلاً، مخبوءاً، يلهث خلف الحب، الحزن و الدمع، مادام

شالُ هطله متّسعاً كبيراً .. كبيراً.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى