أهم الأخباركتاب

عندما تبكي الذاكرة شيخوختها … بقلم سلوى معروف

 

 

 

أجلس على شرفة منزلي عند المساء..أراقب المطر يتساقط حزيناً

غيمةٌ كبيرة واحدة تسبح في فضاء السماء

بردٌ شديدُ

أرتعش ..أدخل المنزل أُحضِر معطفاً

فتحت دولاب المعاطف..أريد معطفاً يدفئني في هذا اليوم البارد

أخذت معطفاً ثقيلاً..امتدّ على ناحية العنق فرواً كستنائياً ناعماً

ما ارتديت هذا المعطف منذ سنوات طويلة

فأنا أقيم منذ ستة عشر عاماً في بلدٍ تندر فيه الأمطار أو البرد الشّديد

أرتديته سريعاً وعدت الى الشرفة

أراقب الأشجار بمحازاة المنزل..تميل مع الأمطار

أبتسم أشعر بسعادة هادئة ساكنة

وأتساءل لماذا المطر حزيناً ؟ ولماذا الغيمة وحيدة ؟

وفجأة ..أتذكّرني

وحدةٌ، وحشةٌ،غربةٌ..وجسدٌ مرّ عليه الزمان..فقلّب سواده بياضاً..ورسم في الوجه الجميل ..ثنايا

أشعر بالبرد..احتاج الى الدفء..وضعت يدي في جيب المعطف أتلمّس دفأه..وأرتجي أُنسه

تصطدّم أصابعي بشيء صلب قاسٍ..أخرجه بسرعة

لحظات.. حالة “توقف عن الحياة”

ومن ثم شعرت بالدوران..دخلت المنزل..جلست على الأريكة

خمس دقائق تعود لي الحياة..أنظر الى يدي..

“صَدَفة ”

أتذكّرها..أتذكّر يوم وضعتها هناك

كنا نجلس على الشاطئ..إلتقطها..قبّلها وقال “احتفظي بها”

أخذتها منه ..قبّلتها ..ووضعتها في جيب المعطف

“وبقيتْ هناك”

حاولت أن أتذكّر ملامح وجهه..لم أستطع

حاولت أن أتذكّر لون عينيه..لم أتذكّر

حاولت أن أتذكّر نبرة صوته..فشلت

حاولت أن أتذكّر عطره..خانتني الذّاكرة

حاولت مراراً ومراراً..لم أتمكن من عبور الزمن

مجرد خيال..ربما خيوط..ربما قليلٌ من الألوان تمر أمامي

لكن لا شيء محددا

رحت أرسم صوراً أتوهّمها هو..علّي أتذكّر شيئاً منه

بحثت عن قصاصات أوراق..كان قد كتبها لي وخبّأتها هنا وهناك..لم أجدها

بحثت عن شالٍ..كان قد أهداني اياه..هجرته منذ زمنٍ بعيد ونفيته من يومياتي..لم أعثر عليه

حاولت أن أتذكّر رقم هاتفه..ما تذكرت

حاولت أن أتذكّر عنوان بيته..تشابهت عليّ المنازل

اتصلت بأعزّ صديقة لي كي تذكّرني باسمه..علّي أجد معلومات عنه عبر النت..

ذكرَته لي

بكيت..بكيت

كيف خانتني الذّاكرة وأنا التي ما خنته كل تلك الأعوام  !!

كيف خانتني الذّاكرة وأنا التي أنام على شدو الحنين!!

كيف خانتني الذّاكرة وهو الذي سكنها كل تلك السنين !!

كيف ينسى بعض ما فيني..كل ما فيني !!!

جلست على سلّم منزلي أعاتب الذّاكرة

أطالبها بمبررات..أسباب ذاك النسيان

قلت : أنسيته ؟

قالت : لا

قلت: أهجرته طوعاً؟

قالت: لا

قلت : ماذا؟

قالت :هرمت..فنسيت

قلت: لا،بل خنتِ.. فنسيتِ

قالت : والله ما خنت بل خانتني الذّاكرة

قلت : أي ذاكرة تخون!!!

قالت: كما خانتك أنت !!!

بكيت..

قلت: ذكّريني به..اشتقته..ذكّريني إياه..صفي لي وجهه

قالت: لا أذكره

قلت : كيف استطعت أن تنسيه ؟؟؟

بكت..

قالت: لا أذكره ولكنّي أذكر أنه كان يردّد”لن أنساكِ”

قلت : أمتأكّدة ؟؟

قالت : نعم

قلت : أين كنا نلتقي؟

قالت: عند النهر

قلت : أي نهر؟

قالت: لا أذكر

قلت : حاولي أن تتذكّري

قالت: لا أذكر اسمه..كل ما أذكره مياه تجري حولكما ومن ثم تلعبان وتتراشقان بالمياه

قلت: أين كان منزله؟

قالت : لا أذكر..ولكنّي أذكر شجرة نخيل كبيرة كانت تظلّل باب الدار

بكيت..

كيف لي أن أعرفها..وأنا التي أحيا في بلد النّخيل !!

قلت: حدثيني عنه

قالت: لا أذكره ،أنا متعبة،أعطني بعض الوقت..غداً انشاء الله أسرد عليك ما أتذكّره

قضيت الليلة أشكو للقمر غدر ذاكرتي

قال: لا تقسي عليها..لعلّها متعبة..اعذريها

ما استطعت أن أواسيها..كان الشّك يتربّص بي..كاد يأكلني..لم أؤمن أن الأيام كانت أقوى من غريزتها..لم أستطع أن أسامحها

فدعوت عليها في غسق الدّجى..يُبليها ربّي بما ابتليت به

تأخّر بزوغ الفجر ذاك اليوم

كاد الإنتظار يقتلني

الساعة السادسة صباحاً..أطرق بابها

تقف أمامي

يحتار صمتي..ماذا يسأل؟

نظرت اليها ..وانتظرتُ

قالت: كان يتردّد على بائع الزهور في” شارع النسيان”

قلت: لماذا؟

قالت: يشتري لك باقة زهور كل يوم ويرسلها مع حارس منزله

ذهبت الى شارع النسيان أبحث عن ذاك البائع..ألتفت يمنةً ويسرةً.. علّي ألمح زهوراً

في آخر الشارع متجرٌ صغيرٌ أخذ من الركن مستقراً..سلالٌ تزينت بالزهور..جلستْ على طاولة قديمة..نسي الزمان تاريخ ولادتها..ولكنّه ما هان عليه التخلّي عنها

أقف أمام الواجهة..أسترق النظر للداخل..أبحث!!!!!!

رجلٌ هرمٌ اشتعل الشّيب في رأسه..وتراكم الدهر تجاعيداً على رقبته

يجلس خلف مقعد صغير..يقرأ جريدة

وقفت أمام الزهور أتأملها..ربّما تذكّرت رائحة الورود التي كان يرسلها

امتزج عبق الزهور مع عطر الذاكرة..فما استطعت أن أستدل عليها

وقفت وانتظرت

اقترب العجوز مني وسألني “أي الزهور أعجبتك يا ابنتي؟”

لم أعلم ماذا أجيب..

قلت: جميعها بهيّة عذبة الألوان..عطرها منعش..

يسأل:أي الزهور تودين أن أجهزّها لك؟

أحسست بخجل ..ماذا أقول له..فاخترت بشكل عشوائيّ بعض الزهور

قام بتوضيبها بأنامل رجلٍ ما اشتم من العطور سوى عطر الزهور

وما لمس من النعومة..سوى بتلاتها

قال: تفضلي الزهور يا وردة ! وابتسم..

وابتسمت

للحظة ..نسيت لما أنا هنا

أخذت الزهور.دفعت ثمنها.شكرته.ومشيت

أحمل زهوراً في يدي..وقلباً يذرف وحدة..وذاكرة ما أهدتني سوى الخيبة

أصل المنزل..شعور لا أعلم أهو شجن! حسرة ! تعاسة !هم ! اكتئاب

أم هو استياء

لا ربّما هو غصّة

نعم..نعم..حين يتحنّط الحب في القلب..ويجري الشّوق في الوريد..وتترك اللقاءات ألواناً وخدوشاً على قرنية العين..

ويُختصر الحاضر ما بين التّوق والهيام

حينها !!! يليق به وصف “غصّة”

غصة عُمر..اكتنز البّؤس زاداً..وروته الذاكرة خذلاناً

فراح يضمها بذراعيه..ظناً منه أنه يحتضن حبيبته…

يهدهدها ويغازلها..يسهر على راحتها..يتأملها ويناجيها..

يلهو معها..ويسليها

وتمر الأيام..

ويستيقظ

يستيقظ ليجد أن محبوبته المدلّلة..ما هي الاّ

“غصّة”

تنتابني حالة من الغضب..

يمتزج كرهي لهذه الزهور مع حبّي لها

أكرهها..

أكره أن أمتّع ناظري بزهور ما رأتها عيناه

وأعشقها..

فربما كانت من سلالة ما أهدته يداه

برفق أمّ..أحنحن عليها ..أقبّلها وأضعها في المزهريّة

أشاهدها لبعض الوقت.

يجتاحني الملل..ضجراً صاخباً مستفِزاً سكرة أيامي

يتأجّج في زخم أحلام الصّبا

أحنّ..أجنّ

وأعود لجَلد الذاكرة..

بغضب أناديها..

“يا أنت!!!”

يا من جلست في الرأس واتّخذت من امتداده..أوراقاً بيضاء وملأت من دمي حبراً لقلمك..

وراحت يدك تتمايل ..

اعتقدتك انّك تسجلين يومياتي..

ما ظننت يوماً أنّك تؤرخين..مماتي!!!!

“يا أنت!!!

يا من صنعتك خادمة ..تنتظر أوامري

كيف حوّلتني لعبدٍ..دون معالم..دون اسم ..دون عنوان

دون ملامح..

متسولٍ على حافة الأيام..يقرأ تاريخه دون كلام

يا أنت !!!

من أنت؟؟؟؟

بكت..وصمتت

لا أعلم لماذا لم أصدق بكاها..

تركتها..ومشيْت

يمر اليوم بتثاقل..أجول في المنزل..أراقب جدرانه كأنّي أراها أول مرة

أتساءل لم أنا هنا..

مع من أعيش في هذا المنزل..كيف انقضى العمر؟

كيف كانت سنواتي؟؟؟

أسألة كثيرة كنت أرشقها هنا وهناك

تائه ..أمر برواق المنزل..وإذ بوجهٍ يمرّ أمامي عبر مرآة الحائط

يستوقفني..للوهلة الأولى شعرت أني قابلت ذاك الوجه من قبل..

وجه امرأة في أول الأربعينات..تحنَّى الشعر شيبا

خطوط كثيرة تغزو بشرتها المرهقة..

عينان..بنيتان تضجّ بالأسرار..يكتسيان هالة من صمت الحزن بعد البكاء

رفعت يدي..أٌلقي عليها السلام

وإذ بيدها

“تبادلني السلام”

 

 

سلوى معروف

14-5-2019

 

 

 

 

 

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى