أهم الأخبارالأسبوعية

عندما يصبح قصر القامة ..نعمة ليست بمتناول الجميع …بقلم سلوى معروف

 

 

 

 طفلة في الخامسة من العمر

 يحملها جارها على كتفيه .. يركض بها وسط شوارع بيروت

 شوارع يطوف بها الناس مفجوعين، مصدومين

 يصرخون كالمجانين، يركضون من شارع إلى آخر

 لا أحد يمسك بيد أحد.. لا أم تمسك بابنتها، ولا أب يمسك بابنه

كلٌّ يقول اللّهم نفسي

يد الجزّارين خلفهم تنهش بهم واحداً تلو الآخر بالبلطة والسّكين

مئات الناس،  بل آلاف تركض في نفس الشوارع هاربين من الذّبح

ويد البلطجيّ أبَت إلاّ أن تقطع كل يد وكل رأس وكل رِجل

لا فرق بين رضيع و طفل ، رجل أوإمرأة

عجوز، أو ربما أصم ،أبكم وكسيح.. لا فرق

 الجزّار رغم كل بربريته لديه شيء من الأخلاق التي يفتقدها معظم صانعي السلام والعدالة في وقتنا الحاضر

أتدرون ماذا يملك ؟

 يملك العدالة !!!

العدالة الكاملة!!!

جملة واحدة يردّدها… ” لا فرق بينكم أيها المشردون .. الكل لدي سواسية كأسنان المشط.. لن أفرق بين رضيع وطفل أو رجل وامرأة أو عجوز أو شاب، لا فرق بين مشرّد طبيعيّ وآخر معوّق… لا فرق … الكل لدي واحد…

الكلّ سيُقطّع اليوم بهذه البلطة وتلك السكين … الكل سيقطّع إرباً إرباً وهو حي يرزق”

 

هذا ليس يوماً من أيام القيامة ،لا، ليس مشهداً من مشاهد هول المطلع

 ولا فيلماً من أفلام  Hollywood

 

هذا يوم من أيام البطش

يوم من أيام الحرب الأهلية في لبنان

 

وأنا أكتب هذه الجملة تستوقف سذاجتي تلك الكلمة  (أهليّة)

إن كانت هذه بصمات حرب الأهل!!!

فما شكل معالم حرب الأعداء!!!

 

أتركها للمتفقهين في اللغة وفي نسج مصطلحات الحرب والدمار!!!!

 

ولكن ماذا حل بتلك الطفلة ذات الأعوام الخمسة !!

طفلة في الخامسة من العمر يحملها ذاك الرجل ، وعائلتها

(والداها،وثلاثة إخوة من الصبيان،وثلاثة أخوات :هم جزء من العائلة ، ممن أنعم الله عليهم باختبار هذا المشهد،أمّا من تبقى من العائلة..فكل واحد منهم كان له مشهده الخاص)

تركض حولها ،ربما سبقوها ربما وصلت لبعضها يد الجزّار، ربما شرد البعض بعيداً عنها، أو لا يزال البعض يركض خلفها..

هي لا تعلم ..

كل ما كان باستطاعتها هو أن تخطف نظرها بين الحين والآخر على من حولها من المشردين لترى إن كان لا يزال أحد من عائلتها بجوارها .. وكلما رأت أحداً منهم راحت تصرخ له

 أحياناً تصادف أن ترى أمها ..فتصرخ  “يمّا خليكي حدّي”، وأحياناً أخرى ترى أخاً لها فتطمئنه ببساطة وعفوية بشعار الحياة المؤقت ” خيّا أنا هون،بعدني عايشة”

 

 

كلما رأت أحداً من عائلتها كان عليها
” دون أن تدري أنها تحمل صليباً آخر من صلبان المسيح “

أن تأخذ مسؤولية تثبيت العزم لعائلتها والتي لم تكن تدرك حينها بأن هذا المصطلح هو مصطلح عصريّ سوف يأخذ رواجاً كبيراً بعد عقدين من الزمن، فكان عليها أن تصرخ وتنادي من تراه بجملة واحدة تتوقف كلمة المخاطب فيها على من يقع نظرها عليه

“اركض خيّا اركض وصلولنا”، ” اركض يابا اركض وصلولنا”، “اركضي خيتا اركضي وصلولنا”

 

وهكذا كان عليها دون أن تدري ..مسؤولية تشجيع هذه العائلة وحثهم على الركض (للبقاء على قيد الحياة)

 

ولكن في وسط مسؤولياتها العظيمة تلك، كانت تستيقظ غريزتها الذاتية، وتتنبّه أن السيف سوف يقع على عنقها هي أيضاً إن وصلت إليها يد الجزّار !!

فتنسى حينها عائلتها، لربٍ يحميها، وتقوم بمحاولة غريزيّة ” للنفاد برأسها” ، فتمسك بشعر هذا الرجل بكل ما أوتيت من قوة غضّة طريّة تتناسب وسنواتها الخمس، وتصرخ بين كل نفس وآخر بجملة واحده لا غير، جملة واحدة كان عليها أن تكررها لساعات “اركض يا عمي أبو يوسف اركض اللّه يخليك وصلولنا بدن يدبحونا”

لا دموع، لا بكاء، مجرد صراخ…صراخ لم يكن له نهاية إلاّ

 ” بفاجعة أكبر”..!!!!!

 

 

في لحظة من لحظات التشرّد هذه، نصل إلى منطقة ما من مناطق بيروت ونصادف مشردين آخرين يركضون بنفس الطريقة ولكنهم كانوا يرددون كلاماً لم أفهم أبعاده أو مغزاه وقتها …لأنني حينها كان لدي جهل غريزيّ ” نظراً لصغر سني وقصر قامتي” بمصطلحات السياسة والواقع المر الحقيقي والذي لا يزال على حاله حتى أيامنا هذه وسيبقى إلى يوم” القيامة الأخير”

 لا أعلم لماذا أسمّيه بهذا الإسم !! ربما لأنني شهدت عشرات أيام قيامة فلم أعد أؤمن بأن هناك يوم قيامة واحد !!

 

هؤلاء المشردون الآخرون كانوا  يرددون على قافلة المشردين التي كنت أقترها حينها ” بأن هناك على مسافة لا بأس بها يوجد حاجز لليهود وأن الناس يمرون من هذا الحاجز ولا يمسكون سوى الشباب والرجال، وأن هؤلاء اليهود لا يحملون السواطير ولا السكاكين ، بعبارة أخرى( لا يذبحون ) فخلينا نروح نسلم نفسنا لليهود أحسن ما يدبحونا (الجزارين _   _اللي لاحقينا)

كان المشردون يرددون هذا الكلام.

وبالفعل وجّهت قافلة المشردين وجهتها نحو جهنم الأخرى إعتقاداّ منها أن الجزّار الآخر اليهودي العبري لا يملك عدالة العربي وأنه يفرّق بين المشرّد الرجل وباقي المشردين ..وأنه يقتل فقط الرجال…

 

أحياناً تصدمك سخرية القدر ولا تعد لديك القدرة على إختيار الحق أو الباطل… وتنقلب المقاييس والمعايير ويصبح الشر هو المرغوب بل الملجأ الوحيد للحفاظ على روحك ..

 

فيصبح المشردون همهم الوحيد ومرتجاهم الأمثل.. أن يصلوا إلى جزّار يقاضيهم بسوط اللاعدالة عوضاً عن جزّار يقاضيهم بسوط العدالة…!!!!!!

 

ربما باللاعدالة يفلت بعض الأطفال والنساء والشيوخ من قبضة الجزّار ولكن من المؤكد …..أن بسوط العدالة لن يفلت  هؤلاء من هذه القبضة !!!

 

فأخذت هذه القافلة قراراً ضمنياً يغمره الرضا والتمسّك بالقدر “اللاعدليّ” واتجهت نحو اللاعدل….

 

الآن وأنا أكتب هذه الكلمات يستوقفي هذا المشهد الغريب العجيب!!!

 

 كيف أن قطيعاً من المشردين يحيط بهم نقيضا الحكم..

 العدل خلفهم واللاعدل أمامهم..

فتراهم يركضون حفاة الأقدام ، رثّي الثياب ، بشعورٍ  كعشاء لا تدري ما أصابها من ويلات الخوف والذعر والمجاعة لكأنك ترى رؤوساً قد مرت بها صاعقة من الكهرباء والرمال، مع الكثير من الغبار … وما خفي أعظم…!!!!

“يقتلوا نص العيلة ولا تروح العيلة كلها!!

غريب عندما يصبح موت النصف قراراً واختياراً..عندما يصبح الموت نصفه نعمة ونصفه نقمة..عندما تصبح العائلة مجرد رقم يتم تقسيمه بنسبة معينة ذكوراً وإناثاً ويصبح من السهل عليك أن تقبل بهذه “الصفقة”

 صفقة لا أدري من رتبّها، أهي ترتيب وتنظيم إلهي أم من بنات أفكار العظماء اللبنانيين ومعهم “عربان” البدو والحضر؟؟؟؟

 

بكل الأحوال كان علينا أن نرتضي بهذه الصفقة، وكان على كل أم في هذا القطيع أن تقبل برحابة صدر…. الحقيقة المختارة أو المدبّرة ، بأنّها لن يكون لها بعد اليوم لا زوج ولا ابن ذكر يزيد عمره عن الثالثة عشرة أو يزيد طوله عن السنتيمترات المحددة للعفو من القتل…

سبحانك ربّي أحياناً يصبح قصر القامة نعمة عظيمة ليست في متناول الجميع بل يصبح قصر القامة رزقة يكاد كل ذكر يسأل ربّه لم حرم منها….

 

عند هذه اللحظة لم يعد يهمني  شيء… سوى الوصول إلى اليهود، الوصول إلى محطة قتل النصف..

فبقيت أصرخ وأصرخ وأردّد تلك الجملة وأنا على رأس ذلك الرجل “أركض يا عمّي أبو يوسف الله يخليك ،بدن يدبحونا”

في ذلك الوقت لم يخطر في بالي أوبالأحرى (ما كان عندي راس لحتى يكون عندي بال)

لم أنتبه لفكرة أو لسؤال مهم !!

 

“لماذا يحملني ذلك الرجل ؟؟”

ولماذا هو؟ وماذا سوف يستفيد؟ لماذا يرهق نفسه ويحملني على كتفيه كل تلك المسافة ويضطّرأن يتحمّل كل ذلك الغضب الذي  كنت أوجهه إليه…( “شد شعره بكل قوتي”؟؟؟ )

لماذا لا يتركني ويمسك بيد زوجته أو ابنائه؟؟؟؟؟

 

عندما كبرت أو بالأحرى عندما طالت قامتي … لأنني أنا لم أكبر يوماً، أنا ولدت كبيرة وبمأساة وخيبة أكبر!!!

 

سألت أمي هذا السؤال ..فأجابتني أن هذا الرجل لم يكن لديه أبناء صغار ليحملهم وأنه كان يحملني ليحتمي بي ظنّاً منه أن الجزّارين سوف يشفقون عليه إن كان يحمل طفلة صغيرة وبالتالي “لن يذبحوه”

 

مسكين هذا الرجل … أشفق عليه … أشفق على خيبته

هذا الرجل المسكين لم يكن على ثقافة سياسية ليعلم أن اليهودي العبري والعربي (العربي) لديهم نفس درجة

” العدل” وإن كان بأوجه مختلفة بالنسبة (للمشرّد الفلسطيني الرجل )

وأنه سوف يقتل سواء ببلطة العدل أو برصاص اللاعدل… هو رجل سوف يُقضى عليه بالحالتين ،لأنّ اللّه جل جلاله  قرر أن يخلقه ذكراً وليس أنثى ..ولأنّ الله تعالى أراد أن يعطيه نعمة الطول ليضفي عليه مزيداً من الجماليّة، وعندها ربّما …

(لم تكن مسألة أو مأزق الطول كمقياس للقتل أو العفو…. مطروحاً في السماوات العلا!!!)

 

بعد مسيرة التشرد هذه، وصلنا إلى ذلك الحاجز الذي كنا نتلاهث للوصول إليه … فلم أكد آخذ (نَفَساً) على حجم قامتي قبل أن يبدأ أهلي بالعدّ …ليحسبوا كم ذكراً من العائلة سوف نضحّي بهم على هذا الحاجز!!!

حتى أفجع بفاجعة أخرى ربما كانت أقسى بداية نكساتي!!!

 تعلمون أنني من عائلة النكسات ومن بلد النكسات ومن أصل النكسات حتى لأكاد أسمي نفسي نكسة بنت نكسة من أصل نكسة…

 

وإذ بي أسمع صريخ أختي تصرخ “يمّا أخويّ أخويّ ماجد على الدبّابة الإسرائلية مربوط بالجنازير” !!!

 

(وكان قد وصل أخي هذا إلى ذاك الحاجز قبلنا بساعات…فأعزّه الله بهول المطلع قبلنا)

 

أحياناً يكون الإنسان مضطّراً ليتحمّل غضب الحياة عليه لأنه ما في مجال يقول لأ

“لإنو على بين ما يقول لأ بتكون الحياة طجتو طجُّة تانية”

فالأحسن إنه ما يقاوم ضربات الحياة 

 

من هنا !!  الأفضل إنو يحط راسو بين الروس وينادي يا قطّاع الروس !!!

 

ملحوظة هامة..

ذاك اليوم الذي كانت فيه تلك الصغيرة على كتفي ذاك الرجل..كان يوم ذكرى مولدها

وبعد 37 عاماً ..تكتب قصتها..أيضاً في يوم ذكرى مولدها

مولد في الحرب ..ومولد في السلم

عقود مرت ولم يتغير شيئاً

فالرب واحد

والتاريخ واحد

وبطش الإنسان لا يزال يعمل كدحاً كدحا..للبقاء على خطٍ واحد

 

 

 سلوى لطف معروف

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى