أهم الأخبارالأسبوعية

“مقهى المهمشين” … بقلم د. يونان وليم

إعتدت كثيرا الجلوس على أحد المقاهى المحببة إلى قلبى فى أحد أحياء مصر القديمة؛ أجلس فيه مع أصدقائى وبعض زملائى فى العمل نتجاذب فيه أطراف الحديث ؛ نتناقش ونتجادل فى كثير من الامور و المشكلات ؛ ننتقد بعض القضايا المعاصرة فى السياسة والاقتصاد فى الفن والأدب كالموسيقى والشعر ؛ على الرغم من بعد المسافة بين هذا المقهى وبين منزلى إلا إننى كنت دوما أقطع تلك المسافة الطويلة عن طيب خاطر وبسعادة غامرة مواظبا على الذهاب مرتين أو ثلاثة فى الأسبوع ؛ فهذا المقهى تاريخى(فى وجهة نظرى)_ كالمتاحف_ فى بناء قديم يزيد عمره عن الستين عاما ؛ يجمع الكثير من المثقفين والأدباء _المشهور منهم والمغمور _ وبعض الموسيقيين والملحنين والكتاب والصحفيين المتميزين وبعض المحللين السياسيين؛فهو مقهى متميز وممتع للغاية بل هو منتدى ثقافى تجلس فيه طويلا دون أن تشعر بالوقت ؛ فتسمع هنا من يلقى أبياتا من الشعر ؛ وتسمع من ذاك لحنا على آلة العود فتنتعش روحك من الطرب وتشعر بالحنين لفن الزمن الجميل؛ وتتعرف فيه كل يوم تقريبا على فرد جديد فى عائلة هؤلاء المبدعون ؛ فهو ليس كباقى المقاهى الأخرى التى تعج بها الأحياء والتى هدفها الأساسى “قتل الوقت” وممارسة عادات سيئة مثل “الشيشة ولعب الطاولة” ومشاهدة مباريات كرة القدم بين أشهر فريقين والذين دائما محلا للخلاف والنزاع بين مشجعيهما ليس فقط على المقاهى بل أيضا داخل بيوتنا والتى قد تتسبب فى بعض الأحيان إلى حدوث عداءات داخل الأسرة نفسها فيخرج الأمر عن حدود متعة المشاهدة إلى سخافة التعصب الأحمق..
؛ وقد اعتدت على تسمية هذا المنتدى الثقافى “مقهى المهمشين” كنوع من الدعابة الحزينة ..فهؤلاء المهمشين هم من صفوة المجتمع الذين لايتم تقديرهم بشكل يليق فى غالبية مجتمعاتنا الشرقية كعقول مفكرة تمتلك كثيرا من القدرات على التغيير والإبداع فى حل المشكلات المجتمعية إذا ما أتيح لهم المجال ف حسن التوظيف ..
فتجد على النقيض؛ذلك التقدير المبالغ فيه لفئات أخرى ممن يسمون أنفسهم فنانيي الدراما حديثا وهم بعيدين كل البعد عن “الفن” بل هم صورة من صور الإساءة المتعمدة للفن والدراما ؛ والكثير من لاعبى كرة القدم (ليس جميعهم بالطبع)أولئك الذين قد التحقوا بقطار الواسطة السريع الذى يوصل إلى الأهداف كالشهرة والمال دون أدنى مجهود أو منافسة حقيقية أو حتى ذرة موهبة أو مهارة….
وبينما أتحدث مع ذاتى فى تلك الأمور جاء أحد هؤلاء المهمشين أقصد المثقفين _صديقى أحمد_رجل الصعيد المهذب والأصيل واسع الأفق؛الذى كثيرا ما أحسست بجانبه بصغر للنفس نظرا لثقافته الواسعة فى شتى المجالات ؛ وبعد السلام والسؤال عن الأحوال والأسرة وظروف العمل شربنا القهوة ثم فنجانى الشاى وتطرق الحديث بيننا عن الدراما الحالية وكيف أن الأمور قد تغيرت ١٨٠ درجة وتحول الهدف من دراما كانت قديما مدرسة لتعليم القيم والأخلاق وغرس الخصال الحسنة ومحاربة السلبيات المجتمعية والظواهر الدخيلة؛ إلى وكالة هدفها الحث على نشر تلك الظواهر السيئة وعرضها للمجتمع كأحد الأمور المسلم بها والتى لا علاج لها وبالتالى لابد من التعايش معها كواقع ..فالبطل فى غالبية الأفلام والمسلسلات الآن هو ذلك “البلطجى او الفتوة الشرير” الذى يرهب المنطقة ويتحدى القانون ويعلن صراحة أنه فوق القانون بل هو القانون ذاته؛ فمن يريد النجاة من بطشه عليه أن يتخطاه بالقوة أو أن يتقرب إليه احتكاما إلى المثل القائل “اليد التى لا تستطيع عضها عليك بتقبيلها” ؛ ناهيك عن كمية الإبتذالات المتعمدة والمفتعلة فى الألفاظ والإيحاءات الغير أخلاقية…الأصعب من ذلك هو تلك الخطة الشريرة للسيناريست أو الكاتب المنحرف الذى صنع تلك الدراما ووضع حبكة درامية أحيانا تجبرك على التعاطف مع أولئك_بلطجية الفن_ فالظروف جعلت منه بلطجيا لكنه صاحب القلب الأبيض الذى يعطف على الفقير ويساعد الجميع ؛ فيتعاطى المخدر والخمر كى ينسى أحزانه _ويقضى لياليه فى بيوت البغاء _ فيصحو مستيقظا بهمة ونشاط ليرهب المارة من الأبرياء لدفع رسوم المرور خلال مربع عمله او منطقته ؛ والملفت أيضا تصوير جهاز الشرطة وكأنه فى حالة عجز تام عن مواجهة هؤلاء فيصبح الحل الوحيد هو محاولة إسترضاءهم حتى يستتب الأمن…فيا للسخرية ..!!!
وبعد ذلك نخشى على مجتمعاتنا من حروب الغرب ومحاولاته المستمرة لإفساد أخلاقنا !؟
أجابنى أحمد أنه يوافقنى الرأى جدا واستطرد قائلا :_
وقد لاحظت أيضا ظاهرة ملفتة للنظر
فى غالبية الأعمال الدرامية دوما ما يظهر أحدهم بدور “مجنون العمل الدرامى” وهو رجل بملابس رثة ذو لحية طويلة تغطى أجزاء ليست بكثيرة من جسده يحمل عصاة يستند عليها وحذاءا مهرئا فى قدميه _وأحيانا بدون حذاء_ وهو يردد كلمات فيها من الغرابة ما يبدو فلسفيا بحكمة حياتية غالبا ما تمثل خلاصة هذا العمل الدرامى..وكما يقول المثل الساخر “خذوا الحكمة من أفواه المجانين”..
وهناك أيضا شكل آخر للمجنون ولكنه “المجنون الدجال” الذى يلعب بالمشاعر إنه “الدرويش” ذاك الرجل الذى يحمل مبخرة فى يده يمر بها على أصحاب المحلات فى الحارات والأزقة
يتسول بطريقة مبتكرة مقنعا الجميع إنه “يعلم الغيب أو مكشوف عنه الحجاب” فيبشرهم ببعض الرؤى والأحلام التى يحملها لهم ؛ كرؤيا مولد صبى منتظر بعد دستة من البنات أو بشرى زواج ابنته التى تأخرت فى الزواج أو نجاح فى دراسة الأبناء أو مال وثراء قادم فى الطريق؛ فهو يوهمهم بأنه لديه قدرات تبصرية أو تكهنية تتخلل ضباب المستقبل ليرى مالا يراه غيرة ؛ والويل كل الويل لمن يغضب عليه “الدرويش أبو فراج”
فقد يمرض فجأة أو يصاب أحد أبنائة لا قدر الله بمكروه أو يخسر تجارته ؛ فالكل يتحاشى غضبه ويتودد له بالعطايا..
وتتشكل شخصية هذا المجنون أو الدرويش بطريقة ما فهو ربما فقد أحدا عزيزا عليه أو مال أو تجارة أو سلطة ؛ فأدرك أن كل هذه الأشياء زائلة ولا يبقى “غير مرضاة الله والعمل الصالح”
______
لكن ألا يوجد يا عزيزى أيا من العقلاء فى تلك الدراما يمكن أن يلخص لنا هذه الحكمة الحياتية بدلا من هذه الصورة المعتمة _التى تقبض القلوب_ لتوصيل المعنى أو الحقيقة !!
فإذا كان هؤلاء هم من يمتلكون الحكمة فى هذا العالم
إذن تحياتى لكل المجانين دونا عن العقلاء الحمقى ..
نعم يا عزيزى أحمد فلقد اختلط العقل بالجنون والحكمة بالحماقة ؛ وصارت الرؤيا ضبابية للغاية…
لكى الله يا مجتمعاتنا …
تمت

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى