أهم الأخباركتاب

وشوشني الرّغيف …للشاعرة خولة سامي سليقة

 

الكلمات لا تكتسبُ رشاقتها إلا إذا هرولت كثيراً قبل أن تعاقر فمكَ، إلا إذا امتنعت عن كذب يورثها آفة البدانة. آهٍ من الكلماتِ و مأساتها، لا قيمة لها إذا لم تُعمّد بالطّهر.

من أين لها ذلك؟

على حافة متربةٍ جلستُ أمسح عرق جبيني. عرقُ جسدي تركتهُ سيلاً يلامس عمودي الفقريّ متجهاً صوب حتفه. الأشياءُ هنا تُترك دون تخطيط لنهاياتها، تتدبر أمورها كنحن تماماً، تلفظك الأرضُ و تبتلعكَ سهلاً هيناً بلا عظم و لا ( حسك).

زحمة الهروب تخنق الجوّ، و أكداسُ الأوراق تخنقني. الكلّ يخنق البعض و البعض يجهزُ على البقيّة.

أمام السّفارة طال انتظاري، أوراقي قاربت على التمام ، لا أدري بالضبط عددَ و نوعَ المراحل القادمة، لكن موضع قدمي مؤكد بيّنٌ. أجيبُ الشاب الذي يملأ أوراقي عمّا يوجهه إليّ من أسئلة ثمّ أطير صوب شرودي من جديد، فالحلم لا يتوقّف و الوهم لا

يستسلم. أغنى الناس نكون عندما نغمضُ أعيننا، ما من أحد يملك أمانٍ صابرة أكثر منا، أمانٍ عاقلة؛ في الطابور الطويل تقف منتظرةً أدوارها.

أمسح عرقاً يغطي أذنيّ، يتسلّق حكّة تنتابني في كلّ مكان، أيّ مكانٍ من رأسي.

ها انتهينا؟

يشير إليّ بعينيه معتذراً.

أأغضب منه؟ تعلّمتُ التخشّبَ أمام القلق، لا يستحقّ الأمر العناء. مسكينٌ، لطخة الشّيبِ

في مقدمة شعره تبدو ضربة فرشاة ضلّت طريقها. كلّ ما حولنا يجعل الولدان تشيب.

طاولته المتكئة على ثلاثة أرجلٍ سليمة و نصف رجلٍ رابعةٍ يدعمها حجران قويان،

تأخذني بعيداً إلى مشهدٍ وصفهُ لي أحدهم، كان قد رآه في سفارة بلدنا العتيدة؛ سفارتنا التي تقول بملء الفم من نكون. ما أكثر الآهات لو أطلقتُ لها العنان!

أتأمّلُ حجراً ثالثاً، يشكّل كرسياً باذخاً لطفلٍ في سنواته الخمس الغضة، أشقر الشعر بعينين تذيب عسلَهما خيوطُ الشمس الشاردة بين الأغصان، يلقي رأسه بعض الوقت على جذع الشجرة. خالجني عتبٌ على أبيه حول زمكانية الوضع، متى؟ لمَ و كيف؟ و هل؟ أدوات قلق كثيرة لعبت بلغتي الخرساء.

رغيف من الخبز العراقيّ – كما نطلق عليه في دمشق- مبلّل الحواف بفعل قضمات صغيرة و استرخاء طويل، راح يلعب في رأسي، له تكوين وجهٍ عاتبٍ ساخطٍ بل أكثر قليلاً. لم أصادفْ رغيفاً يحكي غير أنّي سمعته يتحدّث.

الحرّ الشديد يومها أصابني بلوثة. بدا لي الرغيف أمّاً، و لعل الصّغير بلا أمٍ.

رباه لِمَ تتملّكني هذي الصّور الغريبة؟ أدّعي أني لا أعرف و أنا العارف. لست سوى رجلٍ يحلم بصبيّ مثل هذا. أنا اليائس

زرتُ أطباء البلد، دفعتُ ما أملك، لم أدّخر مالاً و لا جهداً لأطرب لبكاء طفل تحت سقف بيتي و لمّا يوفّق بعدُ حلمي.

أين أتجه إذاً و لمن سأعملُ؟

ملفّ أوراقي للهجرة، تعمّد بأختام السّفارات كلها، دفعت أيضاً زوجتي إلى مقابلةٍ للعمل في بلدٍ مجاورٍ في حال الموافقة عليها، قسوتُ عليها لأعاقبها، أعاقبَ نفسي،

أعاقبَ الانتظار الذي لا يسأم يقتلني، أعاقب الفشل المتلبّس ثيابي و روحي.

ماذا أريد بالضّبط؟

يميلُ رأسي كلما مال رأسُ الصغير يغالبُ نعاسهُ، ترتخي يدهُ المشدودة على بقايا الرّغيف، تتخلى عنه كما تتسرّب أنفاس الحياة من صدري المتعب، حتى يسقطُ.  تهرعُ كفّاي نحوهُ، و يسقطُ رغيف قلبي.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى