قصة”مشفى المجانين..وغثيان من الواقع … د.يونان وليم
أحاول أن أفتح عيني بصعوبة بالغة كمن يفيق من سُبات دام لسنوات وربما لقرون عدة..لست أدرى!!..تصطدم عيني بضوء ساطع قوى فجأة فأضطررت لإغلاقهما بقوة كمن يتفادى ضوء كشافات ليزرية يوجهها قائد سيارة أحمق فى إتجاه مقابل له على الطريق..أشعر بدوارٍ شديد وأرى الأشياء حولى كأنها أشباح ترقص فى حفلة على أنغام الطنين الإيقاعى الذى يملأ أذنىّ..ما أكثر الوخزات التى أشعر بها فى مختلف أجزاء جسدى وذلك الصداع القاتل الذى يحرق رأسى أشعر به كغليان ماء فى إناء موضوع على موقد..ألم كالجحيم..أريد أن أصرخ من الألم..لكنى أدرك أن الصراخ سوف يضاعف من حِدته لا أكثر ..فقررت أن إتخذ الصمت مسلكاً وعدم الحراك ملجأً آمناً لتجنب الألم..
بعدها أحسست بأنفاس كريهة تقترب من وجهى وأصابع غليظة تفتح جفون عيني عُنوة كمن يفتح علبة ساردين محكمة الغلق بكلتا يديه؛ يسلط نفس الضوء اللعين مرة تلو الأخرى وسط صيحات وغضب من أصوات رجولية مختلطة ببعض عبارات لصوت أنثوي ناعم يظهر بين الحين والآخر ويخفت لفترات ثم يعود ثانيةً..من شدة الألم الذى يطبق بفكية على رأسى لم أستطع تفسير العبارات التى تدور أثناء الحديث سوى أن هذا الصوت الأنثوى يطلب من هؤلاء الرجال المحيطين أن يترفقوا بىّ قليلا لأننى إنسان مريض وتلومهم بشدة على سوء المعاملة..فيرد أحدهم بغضب ويعنفها بشدة ويذكرهها بدورها المحدود فى هذا المكان ألا وهو الحقن الوريدى فقط وتشغيل او إطفاء جهاز الصدمات الكهربائية..
صُعقت من هذا الخبر الكهربائى المرعب التى صدم أذنىّ ..جهاز صدمات كهربائية..يا إلهى..إنها حفلة شواء إذن أو باربيكيو..وكل هذا الألم الذى أشعر به هو من جراء صدمات كهربائية قاموا بإلهاب جسدى بها..
فسَكَتَ ذلك الصوت الملائكى الرحيم على إثر الإنتهار وخيم على المكان صمت رهيب ماعدت أسمع فيه سوى صوت ضربات قلبى المتسارعة كطبول الحرب فى ساحات القتال التى يفترض إنها خُلقت لتشجيع الجنود وبث الحماسة فى نفوسهم قبيل مواجهة الموت فى المعركة ولكنها فى الحقيقة مَبعث للخوف وإعلان قُرب الموت لا أكثر..
ثم دار نقاش حاد علت فيه الأصوات بين أحد هؤلاء الرجال والمرأة ..فهمت بعدها أن الإنهزام كان حليف المرأة وعليها بالرحيل فوراً ..يا لحظى العاثر!!..
سمعت بعدها صوت هفيف أقدام ملاكى الأنثوى الحارس مُبتعدا ومتجها لخارج الغرفة..وصوت مقبض باب يدار مدوياً فى المكان لينفتح الباب ويختفى من حينها الصوت الأنثوى الرقيق بعدما أُغلق الباب..
يبدو أن جميع الأصوات عداها إتفقت على شئ واحد وهو أننى يجب أن أرضخ لما يأمرونى به وأن أفتح عيني وأستقبل ذلك الضوء الحارق لأُصاب بالعمى حتى يشعر هؤلاء الأوغاد بالرضا وإلا فسوف يتفنن أحدهم فى مضاعفة الألم أو يبدع فى إضافة مصدر جديد لإيلامى ..قررت أن أفتح عينى وأتحمل الضوء الحارق لأقطع عليهم طريق الإبداع هذا..
ربما يريدون بذلك أن يتأكدوا إنى لا أزل على قيد الحياة بالأخص عندما رأوا أن جسدى لا يقوى على الحراك والذى ربما كان الموت حليف هذه الجثة بعد هذة الصدمات..
شعرت بعدها برعشة فى بدنى نتجت عن الرعب الشديد الذى تملكنى _على أغلب الظن_ثم تحدث أحدهم لآخر وقال له “الحمدلله لايزل حياً..فنحن لدينا ما يكفى من المشاكل” وأمره بإرجاعى إلى العنبر ” عنبر غير المهمين” قائلاُ..”إلق به وسط أمثاله من المثقفين المعترضين” the protestors
وحذره ألا يخطئ هذه المرة مثلما فعل فى المرة السابقة عندما نقل أحد “غير المهمين” بالخطأ إلى عنبر “السادة المهمين” وكاد أن يتسبب فى كارثة لولا القدر الرحيم الذى أنقذ السيد المسئول من الصعق بالكهرباء بدلاً عن أحد هؤلاء المُزدرى بهم..فوعده الآخر بتجنب الخطأ بصوت يشعره بالموافقة والخنوع أكثر منه بالإقتناع ..
_بدأ أحدهم بمساعدة آخر بدفع السرير المتحرك الذى يحملنى إلى خارج الغرفة عبر ممر طويل أرى فيه شيئا واحدا وهو الإضاءة الساطعة التى تزين سقفها ؛ وأسمع منه شيئا واحدا وهو صوت عجلات السرير المتحرك الذى يحملنى التى ترتطم بفواصل البلاط الذى يكسو أرضية الممر..
توقفت العجلات فجأة وقام أحدهما بفتح باب غرفة كبيرة مظلمة يبدو إنها ذلك العنبر الذى تحدثوا عنه ثم دفع السرير الى الداخل وقام الشخصان كل منهما ممسكا بطرف الملائة التى أتمدد عليها ورفعى بإحترافية شديدة وإلقائى على السرير من إرتفاع كمن يلقى بقمامة من أعلى مسكنه إلى الشارع او كمن يتخلص من جيفة حيوان ميت على الطريق..
خرج الرجلان وأُغلق باب العنبر المظلم وحل السواد..سواد الظلمة المخيف..أحسيت بعدها شلل فى التفكير وغياب الأفكار عن زيارة العقل؛ كمن توقفت مشاعره من زيارة قلبه بل كمن توقف قلبه عن التجاوب مع ضرباته التى تنبع من ضفيرة عصبية تنشئ كهرباءاً بسيطة داخل القلب تكفى لتشغيلة وإنارة عقله وإحياء روحه..لكن الكهرباء القوية التى صدموه بها على أغلب الظن قد دمرت ضفيرته وصار خفقانه مرتبطاً بل مشروطاً بكهربائهم.. !!!!!
وقرر أن يأخذ مسلك السكون وربما الموت نفسه أو بمعناً أدق مسلك عدم الحياة…فالموت هو منهج “سلبى لا إرادى” يجر معه الجميع رغماً عنهم ؛أما عدم الحياة فهو منهج سلبى لكنه “إرادى” تسلكه بإرادتك..
لا أقوى على الحراك كمن أصيب بالفالج..هل هو شلل أصاب أطرافى الأربعة إثر جرعة كبيرة من الكهرباء قد تسربت إلى عقلى وقلبى وروحى فقتلت أفكارى وبترت مشاعرى وسحقت روحى؟!!..
أشعر أننى قد أخذت فى جسدى جرعة من الكهرباء فى تكفى لإنارة شارع وربما حىّ بأكمله ..
يا له من كابوس مزعج هاجمنى بغتةً وجردنى من كل شئ..حرمنى من كل ما منحنى إياه القدر؛ عِصمةً وتميزاَ عن أى كائن آخر ..كابوس لو عرفته قبلاً لما ذهبت إلى الفراش قَط….
وأثناء هذا التزاحم والإضطراب والسكون والألم الذى أصارعه؛ سمعت أصواتاً حولى تأن وتتألم فى هدوء وبصوت خافت لا يكاد يُسمع ..يبدو أن هناك آخرين كثيرين مثلى يشعرون بما أشعر ..أصابهم ما أصابنى ..وحل بهم ما حل بى..لكن …من هم هؤلاء؟ بل الأهم ما هذا المكان ؟هل هو الجحيم الذى يتحدث عنه المتدينون؟!!
لكننى سمعت كلمات كالأدوية والحقن الوريدى.. هل يمكن أن يكون هذا المكان مشفى؟!..مشفى الجحيم أم جحيم المشفى!!
..أم هو معتقل لعُتاة المجرمين والخطاة ..المذنبين والأثمة..نعم لابد أنه كذلك..ولابد إنى واحد من هؤلاء المجرمين..حقاً ؟!..لكن ما هو جرمى..؟!! .. سأتذكره حتماً..ربما أتذكره غداً صباحاً..!!
غمرنى التعب والإرهاق وحاربتنى الأفكار بشدة حتى أعيتنى وقررت بعدها أن أنام ..ربما يكون النوم ثانيةً هو الخلاص من كابوس الواقع..
لابد أن هذا كله من فِعل الكهرباء التى صعقونى بها والعقاقير التى لا شك أنهم قاموا بحقنى بجرعات كبيرة منها..اللعنة على السير”ويليام جيلبرت” الذى إخترع الكهرباء الذى كاد إختراعه هذا أن يقتلنى؛وددت لو إننى إخترعت آلة زمنية وعدت بها مبحرا عبر الماضى وذهبت إليه فى معمله الضخم وسحقته بغتةً بكهربائه اللعينة تلك وما تركته حتى إشتممت رائحة لحمه المشوى وعيناه الجاحظتين وشَعره متبعثراً كالقنفذ..
أغلقت عينىّ ورُحت فى سُبات عميق فليس هذا وقتاً للإنتقام..ربما غداً أيضاً..
_وجاء يوم جديد..ربما بأمل جديد وربما بكابوس آخر جديد من يدرى؟!..شق نور الصبح ظلمة العنبر المظلمة وظهرت أشعة الشمس تتخلل زجاج الشرفات التى تعترضها قضبان من الحديد وُضعت خصيصاًُ لمنع هروب السادة النزلاء من هذا الجحيم..
فتحت عينىّ بصعوبة لأواجه النور شيئاً فشيئاً حتى لم أعد أخشى لقائه ..وكأن نور الصباح جاء بالشفاء الكامل فلقد زال عنى ألم الرأس وإختفت معظم وخزات الجسد عدا القليل منها فى أطرافى..وصارت لدىّ القدرة على الحراك ورُحت أحرك أطراف أصابعى كمن شُفى من الفالج فعلاً..إنها معجزة ..سأسميها “معجزة نور الصباح”..
لقد ظهرت الآن ملامح المكان..أسرّة مبعثرة فى فضاء واسع يفصل كل منها جدار ألوميتال ليقسمها كغرف تفتح على بعضها من إتجاه واحد لطُرقة طويلة تسع سريراً متحركا ليعبر خلالها..وعلى كل سرير منها مُلقى شخص عليه ..وفى نهاية العنبر بعض الأشخاص ليس لهم أسرة ينامون عليها فألقوهم على الارضية الباردة ..ربما بإرشاد طبى أن يجعلونهم ينامون على الأرضية حفاظاً على إستقامة العمود الفقرى..فهم لديهم تفسير منطقى لكل عمل إجرامى يقومون به..إنها ملامح لتصميم مشفى لاشك فى ذلك..
لقد سمعت بالأمس جملة “عنبر المعترضون” ماذا كانوا يقصدون؟!..نعم إننى أفهم الآن..مكاناً يعالجون فيه ذوى الألسنة اللاذعة التى تنطق بالحق والأيادى التى تكتب لإصلاح المجتمع ومحاربة الفساد ..لكن أى علاج يمكن أن يشفى من هذا المرض القاتل والمعدى الذى يتسبب فى نشر وباء الإعتراض لدى المحيطين والوعى فى المجتمع ..هل سيحقنوننا بعقار ” الجُبن ” الناتج عن عملية تخمر الجبن بفعل بكتيريا الفوبيا..أتوقع ان يكون له عظيم الأثر على كافة المرضى المعترضين وأن يثبت فاعلية مذهلة عدا نسبة قليلة لا تتعدى ال ١% هم من لن يستجيبوا كلياً أو جزئيا لهذا العقار المذهل ..ولكن له كسائر العقاقير والأمصال بعض الآثار الجانبية؛ والأثر الأكثر شيوعاً هو شلل مؤقت أو دائم فى اللسان(حسب الإختلافات الفردية وإستجابتها للعقار) فيمتنع المريض عن الكلام لفترات وربما للأبد حسب الجرعة المعطاة وطول مدة العلاج..كذلك الشعور بالغثيان من الواقع هو أحد تلك الأعراض الجانبية أضف إلى ذلك بعض النسيان والتيه…
_بدأت ذاكرتى تعاودنى شيئا فشيئا فرحت أفتش وأقلب فى أورقها لساعات حتى تذكرت كل شئ تقريبا..لكن هناك مشهد يظهر أمامى بوضوح تام ويتكرر كثيراً..
قاعة محكمة كبيرة أتذكر فيها محامىّ البارع ؛المشهور بالإحتيال والمعروف عنه تبديل الحقائق؛ تبرئة المذنب وإلقاء الذنب على الأبرياء ببراعة وحِنكة لا يضاهيه فيها أحد..
وقف ليترافع عنى بصوته الجهورى الرنان الذى يزلزل القاعة بأكملها ويقول “سيادة القاضى ..حضرات المستشارين ..إن موكلى شخص فاقد الأهلية ..مجنون ..لا يدرك مايفعله ولا يملك من العقل ما يضعه تحت طائلة أى قانون فى العالم..وهذه الشهادات تثبت لسيادتكم صحة ما أقول ”
لكنى رحت أصرخ وأقول”أنا لست مجنونا..أنا القلم الحر..أنا صوت الحق..انا ضمير المجتمع.. وأنا وأنا…حتى نسيت من أنا من كثرة صفات الأنا التى ألصقتها بأناى”
فمال إلىّ مساعد المحامى وقال لى “أصمت أيها الأحمق..ستلقى بنفسك فى المهالك والسجن مدى الحياة..أصمت فإن الأستاذ يدافع عنك الآن ..بعدها سوف تفهم كل شئ”…
فإضطررت أن أصمت ..فأى خيار آخر يمكن أن يكسب معركة الحرية أو على الأقل الهروب من واقع السجن المرير ..
لكن ألم يجد سبيلا آخر غير وصفى بالجنون ..؟!!
_راح المحامى البارع يبرهن بالأدلة للمحكمة الموقرة ما يثبت بشهادات موثقة إننى مجنون وفاقد للأهلية وبالطبع لا يجوز محاسبة مجنون أو سجنه لأنه يستحق الشفقة والعلاج فقط لا العقاب..فإقتنعت المحكمة ولم يكن أمامها سوى الحكم بتحويل المتهم إلى مشفى الأمراض العقلية لإستكمال علاجه..إبتهج المحامى الأفّاق على إثر هذا الحكم الذى سعى إليه وهو بمثابة البراءة بالطبع..وكم من المجرمين والقتلة والمتطرفين الذين تمت تبرئتهم بهذه الطريقة على أيدىّ محتاين مثله..سفاح يغتصب الأطفال ويقتلهم يصبح فجاة مجنون وينل براءة الجنون..إرهابى قاتل أو متطرف لعين يقتل كيفما يشاء من رجال ونساء وأطفال وينل براءة الجنون..متعصب وضيع يتعدى على المصلين فى دور العبادة بحجة محاربة المفسدين فى الأرض وعندما يقبض عليه يدعى الخبل ومن ثمّ ينل براءة الجنون..وكثيرين وكثيرين…
“لكنى لست مثلهم” ..تحدثت إلى المحامى بعد أن إنتهت الجلسة ..إبتسم الرجل إبتسامة خبيثة ثم نظر إلى ملامح وجهى الغاضبة ثم علت ضحكاته الساخرة وقال لى “سوف ألخص لك الحكاية كلها فى عبارات قليلة وبسيطة يسهل عليك فهمها…الكل يا عزيزى يدعى الفضيلة والفضيلة تتبرأ من الكل..الكل يرى فى نفسه بطلا رافعاً راية محاربة الفساد وللأسف الجميع متورط فى الفساد بشكلٍ أو بآخر..والجنون ببساطة هو إدعاء العقل فى عالم يسوده الجنون أو إعاء الفضيلة فى عالم يغمره الفساد.. والعقل هو ما يميز الإنسان عن عالم البهائم ..إذا أراد الإنسان العاقل أن ينل حريته فعليه أن يُعمل العقل حتى يخرج من أشراك الحياة المتتالية التى قد تودى إحداها بحياته أو بحريته أو بكليهما..أنا لا أنكر إنك مذنب..قد أرتكبت جرماً يجب أن تحاسب عليه بشدة ألا وهو ” جريمة المعارضة” لأنك أقحمت ذاتك فيما لا يعنيك من شئون يديرها من هو أحق منى ومنك فى إدارتها فتعديت الخطوط الحمراء المرسومة لتمثيلية المعارضة وظننت أن بمقدرورك القفز كالحصان فوق الحواجز وتحرير الفضيلة المخطوفة والمحتجزة فى قصر الساحر الشرير ..
هل تعتقد إنك متميز..هل تعتقد أن بمقدرورك تغيير أى شئ فى المنظومة..لقد وضعت المنظومة بكامل نصوصها وأبعادها ثم وضعت أنت..أنت مجرد واحد فى الزحام..رقم فى تعداد وتسلسل بطاقة الرقم القومى..صورة إلتقطتها الكاميرا لكائن متجول فمنحته شرف الرقمية ليصير رقما..
لذا فأنت تستحق العقاب.. لكننا مؤمنون ونعلم ان باب التوبة مفتوح للجميع ..لذا فلديك وقت كافٍ جدا فى ذلك المشفى للتوبة؛ التأمل؛القراءة ويمكنك أيضاً كتابة الشعر أو الرسم…بعد كل هذا ألا ترى أن إدعاء الجنون أفضل بكثير جدا من السجن بكل ويلاته التى تعرف بالتأكيد تفاصيلها جيداً ؟!!.. إنه الآن مخرج الطوارئ أو باب الخروج الآمن لأى قاتل أو سفاح..إرهابى ..مرتشٍ ..متطرف دينى..كل أنواع المجرمين تعج بهم مشفى المجانين..قليل من المرضى الفعليين والأكثرية مجرمون..فترة مؤقتة ستظل فيها فى المشفى كمن التحق بجامعة لعدة أعوام ينتهى من الدراسة فيها ثم ينل الشهادة العليا..ويخرج منها مرفوع الرأس حاملاً “شهادة المجنون” الموثقة من كبار إستشاريى المشفى ليعلقها على جدار الحائط فى منزله..فتعطيه حق الإلتحاق بنقابة المجرمين لممارسة نشاطاته الاجرامية بشكل قانونى دون أدنى مسائلة أو حتى ملامة من أحد..”
هذه هى القصة يا عزيزى بإختصار شديد ”
_سَكَتّ بعد سماع هذه المحاضرة من سيادة المحامى التى تشبه كثيرا مرافعته فى المحكمة التى سمعتها منذ قليل..وإقتنعت بمعظمها صراحةً..عدا مجاراة الفساد.. وقررت المجازفة فى لحظة وتنفيذ الخُطة..ونُقلت للمشفى ..
لكن يبدو ان المشفى لا تختلف كثيرا عن المجتمع الطبقى خارجها ؛ فالكهرباء والعقاقير المخدرة وتغييب الوعى كان من نصيب البسطاء بينما الكبار المهمون ينالون هنا أفضل وسائل الراحة ؛ تلك التى تحدث عنها المحامى عندما أغرانى بالموافقة على القدوم إلى هذا الجحيم..
انها العدالة اللعينة المصطنعة بأيدى المفسدين بميزاتها المختل..حالة من الإعتلال الضمائرى الجماعى ؛ كفتىّ ميزان العدالة كحجرى الرَحَا تسحق الأبرياء وتمنح المجرمين هروب السكينة والراحة..و بيد أنه صارت مشفى المجانين معقلاً لقتلة النفوس لا مكاناً لعلاج مرضى النفوس..يا له من ظلام ليس له نهاية ولا حتى أدنى بصيص من ضوء الأمل..عندما تبدلت مفاهيم التعايش وتغيرت شعارات المجتمع الراقية من “البقاء للأفضل والبقاء للأصلح والبقاء للأنفع”..إلى “البقاء للأكثر بلطجة والأكثر سلطة والأكثر رشوة والأكثر فساداً”..
أمراً خلق داخل النفس شعورا عميقا بالإشمئزاز والقرف من كل شئ كان قديما يبدوا سامياً أو شامخاً..
_سأبقى هنا أكتب للمجانين وأعظهم وأقوى إرادتهم..محتملاً آلام الكهرباء الصاعقة وتجربة عقار الجُبن عن مجاراة الفساد..
وحقاً قال الفيلسوف “أوغسطينوس”..”طوبى للأقدام التى إحتملت آلام المسامير مفضلةً إياها عن السير فى دروب الشر؛ الخطيئة والآثام”
_قد أكون مختلفا لكنى لست متخلفاً ولا مجنوناً ..
والعيش هنا على الأرجح أفضل بكثير من عالم العقلاء هذا.. المثير للغثيان