أهم الأخباركتاب

أعيدوا إليّ خيمتي..أريد أن أشعر بالأمان …بقلم سلوى معروف

 

 

 

 

هي تشبهني..حتى أكاد أقول هي..أنا

ولكن ما يجعلني متأكّدة أنها ليست أنا

هو ذلك الثوب الأنيق رغم اتساخه

فامتلاك مثل هذا الفستان رفاهيّة ما كانت بمتناول بؤجتي

 

ربّما بعض تلك الملابس كانت ..ملابسي

ربّما بعض تلك الحبال..كانت لعبتي

ربّما إحدى تلك الخيّم..كانت غيمتي

أعلم أنّي كنت هناك ..وأعلم يقيناً أنّي بقيت هناك

 

في إحدى تلك الخيّم كانت ولادتي

وفي إحدى تلك الخيّم صرخت صرخة الوجود

وعلى ضفة إحداها خطوت خطواتي الأولى

وعندما تسارعت خطواتي..كنت ألعب وأتسابق مع أصدقاء التشرّد..تسبقنا ضحكاتنا بشعرٍأشعث مغبّر..وملابس استوطن فيها ثرى الأرض وبقايا الشّقاء

نتأرجح على تلك الحبال..فتغدو مدينة ملاهي استثنائية..يرتادهاأطفال ما كانوا يطمحون بسعادة ورديّة

تسيل دماؤنا من أيدٍطريّة..فلا نجد سوى ملابسنا مناديلاً معقِّمة مطهِّرة لجروح لم تلتئم مع الأيام..بل بقيت تشهد ظلم الزمان..

رُكبٌ داكنة ،رِجلان نحيلتان مزينتان ببقع حمراء تركتها حشرات التهجير بصمة تتحدّى بها منظمات الصحة العالميّة ومنظمات حقوق الطفل “الذي يستحق الحياة”

نَجول في المخيّم..نتعرّف على خباياه ..كشّافة صغار..دون جواز سفر،ودون عَلَم

 

تمر السنوات..تجتمع “دول الخير” ..فتخجل من عُرينا..وانتمائنا إلى أجدادهم العظماء..

فيبنوا لنا مخيّماً من الباطون المسلّح في طرفٍ ناءٍ من أطراف لبنان..(لم يبق في المخيّم رجالاً ليعطوهم السّلاح..”فسلّحوا الباطون”)

يتم نقلنا إلى هذا المخيّم الجديد..

غرفة صغيرة واحدة تحتضن أفراد أسرتي الثلاثة عشر..تشجيعاً على التعاضد الأسريّ وللحصول على أكبر مقدار من الدفء الطبيعي..في مواجهة عواصف كانون العتيّة..

(تبهرك بنات أفكار العظماء العرب ..من أكثر من أربعين عاماً..طبّقوا ما توصلت إليه الآن الأدمغة الغربيّة الفذّة ” مصادر الطاقة الطبيعيّة المستدامة” )

 

ارتدتُ إحدى مدارس الأونرواالمخصّصة  لللاجئين الفلسطينيين

كنا نصطفّ كل صباحٍ في باحة المدرسة التي لم يتجاوز مساحتها 15 متراً مربعاً

تلاميذ بؤسٍ تلتصق أجسادهم في تلك الطوابير المكدّسة..يصارعون على موطئ قدم

ننشد بأصواتٍ مدويّة تخرج من حناجر غضّة

(بلادي بلادي بلادي ..لك حبّي وفؤادي

فلسطين يا أرض الجدود ..إليك لا بدّ أن نعود)

 

فأتخيل مخيّم الخيّم أمام عينايّ..وأنشد له

وأردّد في داخلي..(فلسطين أنا آتٍ)

لم أعلم وقتها أن تلك الخيّم لم تكن بيوت فلسطين وأن ذاك المخيّم ما كان فلسطين

فمنذ أن جئت إلى هذه الدنيا وأنا أسكن تلك الخيّم..ولم أغادر تلك الأرض..فاعتقدت أنّها الوطن..أنّها فلسطين

وحين نُقلنا من مخيّم الخيّم…اعتقدت

 

أن ذاك كان التشرّد الأول في حياتي..

وفي عمر الأربعين تيقّنت أن ذاك التشرّد لم يكن الأول فقط وإنما كان التشرّد الأكبر أيضاً

 

عندما أنهيت الصّف الرابع من المرحلة المتوسطة،انتقلت إلى مدرسة خاصة لبنانيّة،

كانت بمثابة هجرة ثانية ولكن هذه المرة أقسى

فللمرة الأولى أترك مجتمع البؤس لللحاق بمجتمع اللابؤس

للمرة الأولى أخلع مريولي الأزرق..وأرتدي زيّالمدرسة الرماديّ والأبيض

للمرة الأولى أضيع بين أروقة المدرسة الكبيرة..وساحاتها الواسعة

للمرة الأولى ألتفت حولي فلا أرى القضيّة

أحزن،أبكي

مدرسةٌ كبيرة مرتّبة،غرف متنوعة الاستخدام واسعة شرحة،شبابيك زجاجيّة تحيط بالفصول،تشعّ الشمس سلاماً طيلة النهار،أساتذةٌ من مستوى اجتماعيّ راقٍ،كل ما في المدرسة جميل وراق،نظيف ومرتب

أشعر بغربة..

أجوب الفصول أتفحّص الوجوه،علّي أجد وجهاً يشبه وجهي

لم أجد..

علّي أجد ابتسامةً تشبه ابتسامتي..لم أجد

علّي أجد جرحاً يشبه جرحي..لم أجد

علّي أجد سعادة ..تشبه سعادتي..لم أجد

علّي أجد روحاً تشبه روحي..لم أجد

أشعر بالوحدة ،أشعر بالغربة ،أحتاج للبكاء

أقنع نفسي أنه مع الأيّام سأشعر بالإنتماء حتماً..وأمتزج مع سعادة الغربة

كنت هادئة جميلة ناعمة هكذا أذكر..ذكيّة مفعمة بالإحساس أغنّي طوال الوقت بين الأصدقاء..أغنيات حزينة

أحبّتني زميلاتي كثيراً

لم أكن أتحدث اللّهجة اللبنانية..وكنت أعلم أن اللّهجة الفلسطينيّة مستفزة لهم

وكنت أعشق اللغة العربيّة الفصحى..

فكانت اللغة العربيّة الفصحى تحتّل جُلّ كلامي..

عندما كنا نجتمع كل يوم  للتحدث، كنت أشرح لهم ما معنى السّعادة وما هو الحزن، ما هو الحب وما هي التضحية

كانوا يعتبرونني الفيلسوف الصغير.. يسعدون بي

يشعرون أنّي من زمنٍ آخر ومن قارةٍ أخرى،لا أنكر أنّهم احتضنوني،أحبّوني حبّاً صادقاً

ورغم ذلك بقيت أبحث عن وجه يشبه وجهي وروحاً تشبه روحي

كلّما انتابني حزن أو ضيق..أغمض عيناي..وأرحل إلى خيمتي..فأشعر بالأمان

ورافقت الوحدة صباي…

وحدةٌ تأكل بي يوماً بعد يوم

غربةٌ .. تشرّد عن الذات

توقٌا إلى الذات..حنين إلى تلك (المنقوشة)التي كنا نتقاسم ثمنها

سبعة أو ثمانية مشردين يتقاسمون ثمن منقوشة ويتقاسمون عجينها

تُمرّر تلك المنقوشة أمام كل مشرّد فيقضم قضمة وتعاود تلك المنقوشة دورتها أمام أعين متلهّفه،ولكن يقيناً ما عرفت الجشع يوماً رغم تلهّفها

ويضجّ الصراخ والغضب لأنّ أحد المشردين كانت قضمته أكبر

وعندما تنتهي تلك الوليمة ..

تتعالى الضحكات مجدداً..نتسامح..تتشابك الأيدي

ونركض..

لا أحزان،لا مخاوف،لا أحلام

لم أكن أعلم أن هناك أحلاماً

الوجود بالنسبة لي كان مقصوراً على سور تلك الخيّم

لم أكن أدرك أن خارج ذاك المخيّم توجد حياة وأناس

ويوم من الأيام ذكر أحد المشردين أنه كان في زيارة أقاربه في مخيّم آخر..

وأن في ذاك المخيّم المراجيحالكثيرة للأطفال وأخذ يصفها ببهجة وغبطة كمن زار كوكباً آخر..لم أصدق ما سمعت

فركضت إلى خيمتي وسألت أمي..

(يمّا الولد عم يقول إنو في براة المخيّم حياة..صح يمّا أو بس غابات؟)

أجابت :في يمّا مخيّمات للفلسطينيّة

خرجت من الخيمة..متشردةً شاردةً هذه المرة..أركل كل حجر أتعثر به وكل حفنة تراب تطؤها قدمي الصغيرة

وصلت آخر المخيّم دون أن أشعر..أجلس على برميل من التّنك..وللمرّة الأولى تجتاحني أفكار..

صور، كلام،رغبات،مشاعر تتمرّغ على حافة القلب..علمت بعد سنوات طوال لاحقة أن المتفقّهين في الكلام يطلقون على هذه الحالة اسم (أمنيات)

للمرّة الأولى في حياتي يكون لي” أمنية”..

أمنية عابرة لحدود الوطن..تتسلّق سور الخيّم..أمنية لا أعلم مدى شرعيتها..ولا إمكانية تحققها..

عدت إلى الخيمة..لجام الخوف يكتم ضحكتي..

تنظر لي أمي مستهجنة..

(يمّا شو مالك شو صار معك شكلك مش عاجبني)

يرتجف الخوف بداخلي..وترتعش اليدان ..وجه أصفر..

(يمّا فينا نسافر على المخيّم التاني !…يمّا فيه مراجيح كتير وفيه يمّا زحليطة كبيرة..يمّا وفيه فرقة للأولاد الصغار بغنّوا لفلسطين)

ترد أمي بنبرة من ألمّ به مصابٌ جلل ( يمّا انت انجنيتي يمّا شو عم تحكي يمّا المخيم التاني بآخر الدنيا يمّا)

لم تبلل وجنتيّ أي عبرة

خرجت من الخيمة..أمر بين خيّم المخيّم

وللمرّة الأولى أشعر بضيق الوطن

كم هو صغير هذا الوطن..كم هو كئيب..كم هو مُعتم

تلطمني تساؤلات للمرّة الأولى (أتساءل لماذا أحيا بوطن دون أغنيات وكيف أعيش طفولة بلا أرجوحات!!!!)

على الزاوية الأخرى من المخيّم كومة كبيرة من الرمل ،أجلس فوقها وأصمت

ولكنَّ الرأس يرفض الصّمت..ضجيج صخب يتحرّش بي بين الحين والآخر

فيغيظ القلب ويبدأ بالتأفأف

(لماذا لا نسافر إلى المخيّم الآخر!! لماذا أجلس هنا  وينام بلد الأغنيات والأراجيح في آخر الدنيا!)

تكبيرات آذان المغرب

رجلٌ عجوزٌ يمر بين الخيّم ويكبّر..

نعم يؤذّن دون مئذنة ..يؤذّن دون مكبّر للصوت..

آذان المغرب يعلن أن وقت العودة إلى الخيمة حان..أعود بتثاقل من يخطوخطواته ولا يريد الوصول

ما إن حطّت قدمي داخل الخيمة..وإذ بأمواجٍ من نظرات الإتهام ترمقني

ويصرخ بي أبي متهكّماً

(ايش يابا شو اللي عم بتقولو امك !!!صحيح اللي عم تحكيه امك !! قال بدك نروح نزور المخيّم التاني..)

أرد بغضب

(آه وشو فيها إذا سافرنا يابا..خلينا نروح يابا نشوف الدنيا شو فيها)

يضحك أبي ..وتلي تلك الضحكة مشحة احمرار تسرّبت خفيةًإلى العين

(يابا أنا لو اشتغلت سنة ما بقدر أدفع اجرة تاكسي إلكن لنوصل للمخيّم التاني

خلص يابا الله يرضى عليك  ما تشغّلي بالك بأشياء صعبة ما راح تصير)

رميت نفسي على إحدى الفرشات..وقمت بتغطية رأسي

لم أبك..رحت أضرب وجهي بالفرشة..وأردّد في داخلي..بدّي أروح بدّي أروح

في الصّباح التالي ألتقي برفقة الشّقاء..تعزّ عليّ نفسي أن أُظهر حزني

فأتبجّح وأقول بثقة (لما أكبر بدّي أشتغل وأجمّع مصاري وأسافر على المخيم التاني)

إحدى المشرّدات تسأل(وين المخيّم التاني موجود؟)

أردّ بجرأة..(ما بعرف بس امي بتقول بآخر الدنيا..وأنا راح أسافر لآخر الدنيا)

ايش بدك تعملي بالمخيم التاني؟

(بدّي أغني لفلسطين..)

 

وتمر السنوات…ويموت حلم الأرجوحة..وتبقى فلسطين في دمي..أغنية عزّ زماني عليّ أن أغنيها

 

أنهي الدراسة الجامعيّة..

أغادر لبنان وأرتحل

ويتفرق جميع الأخوة ..كلٌّ في بلدٍ..

يضربون بقاع الأرض ..بحثاً عن وطن دون سوط

 

وينعم الله علينا بحياة رغدة..

وأتزوج..وأرزق بأربع أبناء

وتغمرني الحياة بترف غناها..

فتمر السنوات..ولا زالت الغربة تصرّ على مصاحبتي..

فأصرخ في وجهها كل يوم..صراخ من لا صوت له

(اتركيني اتركيني تعبت الترحال..تعبت الوحدة)

يلهو أبنائي أمامي كل يوم ..بصراخ وهتاف وركض داخل المنزل

فأغار..

وأحنّإلى ضحكتي

أستكين على سلم منزلي..أغمض عيناي

ألتحف الذاكرة،أتلمّس عبقّها وأشتمّ دفئها

أبكي..أشعر بالخوف

ذاك الخوف الذي لم يفارقني منذ هجرت خيمتي

تلك الوحشة التي سكنتي وأقسَمَت ألّا تفارقني

عقودٌ من الزمن مرّت..ولا زلت أبحث في الوجوه

عن وجهٍ يشبه وجهي..وروح تشبه روحي

ولا زلت أجلس على سلم بيتي..أغمض عيناي..وأستحضر خيمتي

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى