أهم الأخبارمحليات

الذكرى التاسعة والعشرون لرحيل الشيخ عبدالله المبارك الصباح

تحل اليوم الذكرى التاسعة والعشرون لرحيل الشيخ عبدالله المبارك الصباح، أصغر وآخر أنجال الشيخ مبارك الكبير، وأطولهم حياة، ففي يوم 15 يونيو 1991 طويت صفحة من صفحات التاريخ الكويتي المشرقة التي شكلت البناء الحقيقي للتاريخ الكويتي الحديث والنهضة الهائلة في كل مفاصل الدولة، لما كان يملكه ذلك الرجل من طاقة هائلة على العمل وامتداد مذهل من العلاقات، ووقوفه على رأس مؤسسات الدولة، فقد شهدت الكويت في عقدي الأربعينيات والخمسينيات من القرن العشرين وضع الدعامات التنظيمية الأولى للنهوض بالبلاد على مختلف الصعد، فكانت من أخصب الفترات التي هيأت لانطلاق النهضة الثقافية والتنظيمية الشاملة، وشاء الله أن يتسلم الشيخ الشاب عبدالله المبارك الصباح (1914 ـ 1991) في تلك الفترة مناصب قيادية مفصلية، مكنته من لعب دور محوري، مهد له الطريق لتحقيق طموحاته في تسريع مسيرة التقدم الكويتية.

فمنذ بداية الأربعينيات تعددت مسؤولياته في مواقع رسم السياسات العامة للبلاد، فشغل منصب رئاسة دائرة الأمن العام في العام 1942 بالإضافة إلى مسؤوليته عن شؤون القبائل، ما وفر له العمل والإشراف على تأسيس الجيش الكويتي، الذي أصبح قائدا عاما له في العام 1954.

وترأس في العام 1947 جلسات مجلس المعارف لسنوات تواصلت حتى العام 1960، فأشرف على عملية التوسع الهائل في التعليم، وعلى إرسال البعثات التعليمية إلى مصر ولبنان وبريطانيا وغيرها.

وفي العام 1951 أشرف على إنشاء ميناء الأحمدي، ودعم في العام 1952 إنشاء النادي الثقافي القومي كتجمع للمثقفين والأدباء، وتولى رئاسته الفخرية.

وشغل الشيخ عبدالله المبارك منصب نائب الحاكم لفترات عديدة، وهو أول من أسس إذاعة الكويت وتولى رئاستها من العام 1951 حتى العام 1960، وكان له الفضل في العام 1953 في تأسيس ناد للطيران، صار فيما بعد النواة الأولى للقوة الجوية الكويتية، واختير في العام 1958 عضوا في المجلس الأعلى الذي شكله سمو أمير البلاد آنذاك الشيخ عبدالله السالم لوضع السياسة العامة للبلاد والإشراف على تنفيذها، وتسلم في تلك الفترة مهمة إدارة شؤون الجوازات والسفر والجنسية.

مرتكزات كثيرة وعديدة وضعها هذا الرجل شكلت مفاصل مستقبل الكويت، الذي بات حاضرا يعيشه المواطن والمقيم والزائر، فأنت تدخل أو تخرج من الكويت عبر مطار هو من أشرف على تأسيسه وتطويره وتدريب طياريه، وتتعامل بجوازات سفر هو أول من أصدرها.

وفي الداخل تعيش الأمن والأمان بفضل مؤسستي الجيش ووزارة الداخلية اللتين وضع نواتيهما في الخمسينيات من القرن الماضي. وعندما تفتح الراديو أو التلفزيون تتذكر أنه من أسس لقيامهما.

ولعلك تنسى حين ترسل أولادك إلى المدرسة أنه من سعى وبشكل حثيث، لتطوير التعليم والتوسع في إنشاء المدارس ونشرها في مختلف مناطق البلاد، وتراك تطالع الصحف والمجلات العديدة، وتتابع دعوات الأندية والهيئات الثقافية الكثيرة من دون أن تعرف أن قيادته لـ «إدارة المعارف» في تلك الفترة هي ما مهد الطريق لصدور الصحف والمجلات، وإصدار أول قانون للمطبوعات في تاريخ البلاد، وتأسيس العديد من المنابر الثقافية، وهو.. وهو.. الخ.

نعم.. لقد وقف الرجل وراء إنجازات وطنية كثيرة، تمتع ويتمتع بها المواطنون والمقيمون على حد سواء، وشخص من هذا الطراز تمتلئ الكتب عادة بذكره، ويحتفى به كرمز، في غير ميدان وبأشكال مختلفة.

بيد أن الصدمة سرعان ما تتلبس المرء حين يطالع كتب التاريخ الكويتية، في مختلف المجالات، فلا يجد ذكرا لهذا الرجل. وإن وجد فهو خجول وباهت ومتسرع، خلا ما أثبتته الدكتورة سعاد الصباح في غير كتاب عن حياة هذا الرجل ومنجزاته.

لن نبحث عن السر، ولن نجتهد في فك مغاليق هذا اللغز، كما لن نتحدث عن كل إنجازات الرجل، بل سنحاول تلمس رياداته في المجال: المعرفي، الثقافي، التنويري فقط.

لقد قدر للشيخ عبدالله المبارك، رحمه الله، أن يتولى دفة القيادة، كرئيس لدائرة الأمن العام ورئيس لدائرة المعارف ونائب للحاكم في فترات عديدة، خلال فترة تغيرات عاصفة، حملتها رياح الحرب العالمية الثانية، وهدير تدفق النفط بكميات تجارية دغدغت أحلام الشباب الكويتي وطموحاته، فقد خلخلت الهجرات المفاجئة والمتسارعة إلى الكويت، بما حملته من ثقافات وقيم غير مألوفة، النسيج الاجتماعي والفكري، وزاد في ذلك انفتاح الكويتيين في ذلك الوقت على العالم الخارجي بشكل غير مسبوق، وكان لابد أمام الانفتاح الثقافي والفكري أن يتم استيعاب وتنظيم وتوجيه التطلعات الشبابية الجديدة، وهذا ما عمل عليه الشيخ عبدالله المبارك على غير صعيد.

النادي الثقافي القومي

استشعر الشيخ عبدالله المبارك أن الحاجة باتت ملحة لإنشاء كيان يحتضن الأدباء والمثقفين الكويتيين، الذين أخذ عددهم بالتزايد وطموحاتهم بالاتساع.

ولمس ضرورة إيجاد متنفس يتيح لهم التعبير عن آرائهم ومواهبهم. وساعده على ذلك ازدهار الوضع الاقتصادي ونمو الوعي الاجتماعي.

ولذلك، ما إن تقدم عدد من المثقفين بكتاب إليه طالبين الموافقة على تأسيس ناد باسم «النادي الثقافي القومي» وأن يكون هو رئيسا فخريا له، حتى وافق على طلبهم، وأشاد بمبادرتهم، بل شجعهم على المضي قدما، وأكد أنه سيكون سندا قويا لهم.

كان أول مقر للنادي في بيت عبدالله العوضي، الذي استأجره النادي، وأما قيمة الاشتراك للعضو فكانت خمس روبيات، وقد كان للنادي دور قومي وثقافي، وبخاصة في القضايا العربية مثل حرب السويس 1956، حيث كان هناك تحرك شعبي ضد الإنجليز أدى في النهاية إلى إغلاق النادي، لكن أعيد افتتاحه بعد أن سعى إلى ذلك نصف اليوسف وعبدالحميد الصانع، وكانت لجنة تأسيس النادي تتألف من: يوسف إبراهيم الغانم، د.أحمد الخطيب، أحمد زيد السرحان، محمد السداح، يوسف البدر، أحمد السقاف، وعبدالعزيز أحمد العيسى.

النادي الأهلي الرياضي

آمن الشيخ عبدالله المبارك بأن الرياضة لا تقل أهمية عن التعليم والقراءة في صقل شخصية الجيل الشاب، ورأى فيها الدواء الأنجع لاستثمار أوقات الفراغ، خصوصا بعد الطفرة النفطية وما صاحبها من فوران في أحلام ذلك الجيل وتطلعاته وطموحاته.

من هذا المنطلق، دعم وشجع فكرة طرحها عليه مجرن الحمد بخصوص إنشاء ناد رياضي، فظهر إلى الوجود النادي الأهلي الرياضي في العام 1949 «في منطقة قبلة، وكان مقره في ديوانية الحمد لأن النادي من فكرة مجرن الحمد في حين كان الرئيس الفخري للنادي هو الشيخ عبدالله المبارك».

التعليم

أولى الشيخ عبدالله المبارك، رحمه الله، التعليم أهمية خاصة خلال رئاسته مجلس المعارف (1947 ـ 1960) «فقد نظر إلى التعليم باعتباره أداة تأهيل لجيل جديد من الكويتيين لإدارة مرافق الدولة بعد الاستقلال ولقيادة جهود التنمية فيها.

لذلك، فقد اهتم بالتعليم على كافة مراحله وخصوصا تعليم البنات، وبأنشطة التربية الاجتماعية والرياضة المدرسية.. كما شجع إرسال البعثات العلمية إلى الخارج».

وكان ذلك كرئيس وعضو المجلس الأعلى للمعارف، الذي أولى له قانونه التأسيسي مهمة «رسم خطط المعارف وسيرها، والبت في مناهج الدراسة، وتعيين مديري المدارس، وتقرير شؤون البعثات، واختيار المرشحين لها، ووضع اللوائح القانونية والأنظمة الخاصة بإدارة المعارف».

وعليه، مضى الشيخ قدما في بناء المدارس واستقدام المعلمين والمعلمات العرب والمتميزين من الإداريين في مجال التعليم.

ولم يأل الشيخ عبدالله، رحمه الله، جهدا في حض المتعلمين على السفر في بعثات دراسية إلى الخارج، وكان يحرص على زيارتهم والوقوف على أوضاعهم واحتياجاتهم كلما سافر إلى مصر أو لبنان أو فرنسا أو بريطانيا، كما كان مجلس المعارف برئاسته دائم السهر على راحة الطلبة، وتذليل كل ما من شأنه إعاقة مسيرة تحصيلهم العلمي، ويمكن الوقوف على ذلك من خلال محاضر اجتماعات المجلس الكثيرة.

الكشافة

كان الشيخ عبدالله المبارك يميل إلى الحركة الكشفية لمعرفته بما تقوم عليه من مبادئ تتمثل في تعزيز السلام والصداقة والعمل التطوعي، إضافة إلى تربيتها للقدرات البدنية والعقلية في الآن ذاته.

ومن هذا المنطلق، شجع فرق الكشافة والأشبال، وكان دائم الزيارة للمعسكر الكشفي السنوي لكشافة الكويت، وحرص على مشاركة فرقها في الاستعراضات والمناسبات العامة.

ففي فبراير عام 1953 على سبيل المثال «نظم الشيخ استعراضا كبيرا أمام دائرة الأمن العام ضم وحدات من الحرس الأميري والجيش وفرق الكشافة والأشبال».

ونتيجة لهذا الاهتمام، تأسست جمعية الكشافة الأهلية في 22/10/1955، وكانت تبعيتها لإدارة المعارف، التي أصدرت قانونا لحماية الحركة الكشفية.

وفي العام ذاته شاركت الكويت في المخيم الكشفي العالمي الثامن في كندا. وفي العام ذاته، أقيم اجتماع اللجنة الكشفية العربية في دورتها الثالثة في الكويت.

الصحف والمجلات

في خضم سياسة الانفتاح التي انتهجها مجلس المعارف، وفي ظل تزايد البعثات الدراسية، واتساع شريحة المثقفين الكويتيين، وتكريس تواصلهم مع معظم الدول العربية، إضافة إلى تشعب اهتمامات المجتمع ومجالات العمل فيه، بعد أن كانت قاصرة على البحر وشؤونه، ازدهرت على يد الشيخ عبدالله المبارك صناعة الصحف والمجلات، فتجاوز عددها عدد أصابع اليدين الاثنتين خلال نحو عقد من الزمن فقط، وفي مجتمع لم يكن عدد مواطنيه والوافدين إليه يتجاوز ربع المليون نسمة.

فبعد تزايد عدد الطلبة الكويتيين الدارسين في مصر، وبعد التشاور مع مجلس المعارف، صدرت مجلة «البعثة» الشهرية عن بيت الكويت بالقاهرة في الشهر الأخير من العام 1946، وقد أدارها وأشرف عليها وحررها طلاب الكويت الدارسين في الجامعات والمعاهد المصرية. وتمحورت موضوعاتها حول الشأن الداخلي الكويتي، وكان لها اهتمام خاص بالأدب والرياضة وشؤون المرأة.

وقد أثبتت «هذه المجلة وظيفتها في تأكيد الانتماء وتوثيقه بالوطن والعروبة بتراثها وحضارتها دون أن تغفل الاتجاهات الحديثة.

وإذا كانت المجلة توجيهية تتلقى خطوطها العامة من مجلس المعارف إلا أن هؤلاء الشباب وجدوا فيها وعاء يحوي ما يجول في أذهانهم ومشاعرهم ويصلهم بالبيئة الثقافية المصرية، واتسمت معالجة المجلة للمشكلات الاجتماعية بالهدوء نتيجة للرقابة المزدوجة من إدارة بيت الكويت ومجلس المعارف خاصة في سنواتها الخمس الأولى».

وكنتيجة حتمية لتكاثر المجلات والصحف أصدر مجلس المعارف في العام 1956 قانون المطبوعات والنشر في الكويت، وكان أول تشريع خليجي من نوعه.

حماة الوطن

لطالما حلم الشيخ المبارك بتكوين قوة منيعة قادرة على الذود عن حياض الوطن، فمنذ عمله في يفاعته في قوة الحدود عبر مجاهل الصحراء الكويتية، وتسلمه بعد ذلك منصب نائب رئيس دائرة الأمن العام، أيقن أنه لا بد من تشكيل قوة ضاربة تحمي البلاد من هجمات المهربين التي خبرها وتصدى لها مرارا، ناهيك عن خطر الأطماع التي ما بدأت تطل برأسها عبر الحدود، وما إن واتته الفرصة في رئاسة دائرة الأمن العام حتى شرع، وبكل ما أوتي من عزم، في تحقيق حلمه، الذي سرعان ما تحول إلى حقيقة على أرض الواقع.

وعن ذلك قال العقيد طيار متقاعد سلطان عبدالرحمن الكندري «تأسس الجيش الكويتي أواخر الأربعينيات، وكان المؤسس المرحوم الشيخ عبدالله المبارك الصباح.. ذلك الرجل الذي اهتم ورعى الجيش وقدم وسهل له المهمات، وأحضر للجيش كل جديد من المعدات.. واهتمت قيادة الجيش بإرسال الأفراد إلى الخارج للدراسة، خاصة الحاصلين على مؤهلات علمية، بعضهم إلى بغداد ومصر».

وعلى الرغم من انشغاله بالأمور الأمنية والعسكرية في دائرة الأمن العام، وقيادته للجيش والقوات المسلحة، إلا أنه لم يتخل عن الشق التنويري والتثقيفي.

لقد آمن أن التثقيف العسكري لا يقل أهمية عن التدريب العسكري، فأوعز بإصدار مجلة «حماة الوطن» كأول مجلة متخصصة في الشؤون العسكرية المختلفة.

وهذا ما تم فعليا، «ففي أكتوبر عام 1960 أصدرت إدارة التوجيه المعنوي في الجيش والقوات المسلحة، قبل أن تصبح وزارة الدفاع، أول مجلة متخصصة في الشؤون العسكرية المختلفة، وكان الإقبال عليها كبيرا من القراء في ذلك الوقت نظرا لطبيعة صدورها واختلاف موادها التي كانت تشمل الحروب العسكرية في التاريخ وطبيعة الأسلحة ودورها لدى الجيوش.

الطيران

كان للشيخ عبدالله دور رائد في إرساء قواعد كيان الطيران المدني والعسكري في الكويت، ففي العام 1953 أنشأ وافتتح «نادي الكويت للطيران ومدرسة الطيران»، وأصدر أوامره بضرورة تحديث وتطوير مطار الكويت (مطار النقرة)، الذي لم يكن مؤهلا وقتها إلا لاستقبال الطائرات المروحية، وعدد محدود جدا من طائرات الركاب، ونهارا حصرا.

وبالتزامن مع ذلك، بوشر بتدريب عدد من الكويتيين على الطيران في النادي وإرسالهم بعد اجتياز الدورات إلى بريطانيا لاستكمال التدريبات، وبذلك تمكن من تشكيل نواة «الخطوط الجوية الكويتية» وسلاح الطيران الكويتي فيما بعد، واعترافا من بريطانيا بنجاحه في إدارة نادي طيران الكويت منحته وسام «أجنحة الشرف» في حفل كبير أقيم في الكويت.

وفيما بعد برزت الحاجة إلى هيئة تتابع وتشرف على أعمال الطيران المدني، فأعلن الشيخ عبدالله المبارك ـ بصفته القائم بأعمال الحاكم ـ في الأول من شهر أكتوبر عام 1956، إنشاء دائرة الطيران المدني وتبعيتها لدائرة الأمن العام تحت إشرافه، ولم يكتف بذلك، بل عمد إلى إنشاء مطار جديد، لضعف إمكانيات وقدرات القديم، واستطاع بعد التعامل مع اعتراضات ومماطلات السلطات البريطانية، أن يحقق مراده.

المواسم الثقافية

الانفتاح الكويتي على الخارج والتلاقح الفكري الذي أنتجته الهجرات المتلاحقة إلى البلاد وتوسع القواعد التنويرية في الداخل، دفع بالحراك الثقافي إلى التنامي بخطوات متسارعة.

ولما رأى مجلس المعارف أن جزءا من طموحاته بدأ يزهر على أرض الواقع، كثف السعي لتحقيق ما يمكن من الطموحات المتبقية على طريق النهوض بالبلاد قدما.

وفي الشأن الثقافي، بادر المجلس إلى تنظيم مواسم ثقافية سنوية يشارك فيها مثقفو الكويت، ويدعى إليها أدباء ومفكرون من الدول العربية.

وقد لاقت هذه المواسم إقبالا كبيرا، وتفاعلا لافتا شجعا على التطوير والتنويع والتوسع.

انطلقت المواسم الثقافية في العام 1955، واتخذت من ثانوية الشويخ مقرا لها نظرا لحداثتها واحتوائها على كل التجهيزات المطلوبة، وكانت معارف الكويت آنذاك تجمع محاضرات كل موسم في كتاب مستقل، وتقوم على طباعته مطبعة حكومة الكويت، ويوزع هذا الكتاب داخل الكويت وخارجها على المعنيين بذلك.

وكان الحدث الأبرز الذي عمد الشيخ عبدالله المبارك من خلاله إلى إبراز وترسيخ مكانة الكويت الثقافية في الوسط العربي، فهو إصراره في العام 1958 على استضافة الكويت لمؤتمر الأدباء العرب الرابع.

وقد تم له ذلك، حيث عقد المؤتمر في الكويت في العشرين من ديسمبر من ذلك العام، وتواصلت فعالياته حتى الثامن والعشرين منه، وكانت المرة الأولى التي يعقد فيها مثل هذا المؤتمر في الكويت.

وبصفته رئيسا للمعارف ونائبا للحاكم، فقد رعى المؤتمر الذي افتتحه أمير البلاد آنذاك الشيخ عبدالله السالم، وكان له قبل افتتاحه دور محوري في الإعداد لبرنامجه واصطفاء أسماء المشاركين فيه وترتيب إقامتهم.

ولم يكتف بالحفاوة الرسمية التي لقيها المشاركون، بل استضافهم وأولم على شرفهم في قصره (قصر مشرف).

وقد تعرف الكويتيون شخصيا في تلك السنة على الكثير من الشخصيات الأدبية والفكرية ذات الصيت الواسع، التي طالما سمعوا بأسمائها وقرأوا لها.

فمن الشخصيات البارزة التي حضرت وشاركت في ذلك المؤتمر نذكر: محمد الجواهري، أحمد الشرباصي، سعيد عقل، إحسان عبدالقدوس، عبدالقادر القط، نازك الملائكة، عائشة عبدالرحمن، كامل الشناوي، عبدالحليم عبدالله، فؤاد الشايب، محمد يوسف نجم، عبدالمهدي مجذوب، سهيل إدريس، إبراهيم العريض، عيسى الناعوري، القاضي الشماحي، وعبدالهادي التازي، مفتاح الشريف، مهدي المخزومي، عثمان السعدي، عبدالله الشباط، عبدالرحمن معاودة، وغيرهم الكثير من الشخصيات التي وصل عددها إلى نحو مئتي شخصية.

«تحية صاحب السعادة».. إضاءة على مسيرة إنجازات

خير ما نتوج به رحلة عطاء الشيخ عبدالله مبارك الصباح قصيدة تفي هذا الرجل بعض حقه، وهي لأحد أبرز شعراء الكويت الذين عاصروه ولمسوا إنجازاته على أرض الواقع، وهو الشاعر الكويتي المعروف الأديب عبدالله الصانع، الذي كان عضوا في النادي الأدبي الكويتي الذي تأسس عام 1924، وكذلك عضوا منتخبا في مجلس المعارف في سنة 1952.

ونشرت القصيدة تحت عنوان «تحية صاحب السعادة الشيخ عبد الله المبارك الصباح» في العدد الثامن من مجلة «البعثة» الصادر في أكتوبر من العام 1952:

خليلي هذا المجد لاحت قبابه يكاد ينال النيرات عمودها

هنا الجود والمعروف والعرف والحجى هنا العزة القعساء جم عديدها

هنا ملجأ العافين حين تروده هنا مشرعات الرفد كل يرودها

هنا معقل الآمال والموئل الذي له منة عندي عزيز مديدها

بعيد عن المأثور مما يشينه قريب الندى إن صد عنها بليدها

له راحتا جود وفضل لدى الجدى وكفاه عضب يوم يعشو عنودها

ينال الذي ما ناله قط غيره إذا سابقات العز يتلع جيدها

حلفت يمينا برة غير كاذب بأنك (عبدالله) حقا عميدها

وأنك محمود الخصال وأنه لمجتدي المعروف منك حميدها

تباري غمام الوسم جدواك إن همى وينشر منها نسمة المسك جودها

وكم لك يا ابن الأكرمين لدى العلا مشاهد مجد لم تغيب شهودها

أبوك الذي ساد الملا في زمانه وجاءته إرغاما لدى الأمر صيدها

(مبارك) من قد بارك الله أمره وأبقى لنا م الفخر حوضا نرودها

ونال التي ما لم ينل في حياته مجار له إلا كبا من يريدها

تغيبت يا ذا المجد عني فإنني لبعدك في ظلماء ثاو ركودها

أراقب ميقات الإذاعة علني أحس بمن قد نال عنك بعيدها

لأنك عندي في الشدائد جنة ومربع خصب إن فنى لي حصيدها

وأنك طود إن تداعت حصوننا أشم الذرى لا شيء يوما يؤودها

وأنت لنعم المستلاذ إذا بدت لنا يومها حمر المنايا وسودها

قدمت فأهلا في لقاك ومرحبا ويا حبذا الأوقات وافى جديدها

لئن كان في العيدين للناس بهجة فيومك ذا للناس قد جاء عيدها

ومني سلام ما بعدت وإن دنت بك الركب يزجيها فخارا سعودها

سجل.. ومتحف

أدرك الشيخ عبدالله المبارك في تلك الفترة ضرورة توثيق كل ما يتعلق بمظاهر الحياة في المجتمع الكويتي، سياسية واقتصادية واجتماعية وغيرها، فأصدر في العام 1959 نداء لكل المواطنين والمثقفين والتجار لتقديم كل ما لديهم من مذكرات ووثائق تاريخية أو صور عنها، ليصار إلى جمعها وحفظها في مكان واحد يشكل سجلا عاما للكويت، يرجع إليه الباحثون والمؤرخون لرصد صورة موثقة للكويت بألوانها المختلفة.

على الصعيد ذاته، أدرك الشيخ ضرورة الحفاظ على آثار وتراث الكويت لتكون شاهدا على ماضي هذا البلد، ونافذة للأجيال اللاحقة للاطلاع على تراث بلدهم وطبيعة حياة أجدادهم.

وبعد تدارس الأمر، تبنت دائرة المعارف تأسيس متحف الكويت الوطني في العام 1957.

السينما

اتسمت السينما بحضور خجول في مجتمع ما قبل النفط في الكويت. فقد كان الشغل الشاغل للمواطنين وقتها هو الركض المرير للحاق بلقمة العيش.

ولم يكن للعامة أي صلة أو تواصل مع بدايات ظهور السينما في الكويت، ذلك أن أول عهد للكويت بالسينما كان في العام 1936، وفي قصر الحاكم تحديدا، إذ إن «أول سينما دخلت الكويت كانت في العام 1936، أحضرها السيد عزت جعفر معه للشيخ أحمد الجابر، ووضعت في قصر دسمان».

ولما كانت دائرة المعارف تتولى دفة القيادة، وتكافح لإخراج البلاد من ربقة الأمية والانغلاق، سارعت إلى الاستعانة بتقنية السينما لتعينها في مهمتها، و«في العام 1950 قامت دائرة المعارف (وزارة التربية الآن) بتأسيس قسم السينما والتصوير وتمكنت من إنتاج 60 فيلما وثائقيا تعليميا عن التعليم والصحة وغيرهما من أمور تتعلق بالحياة في الكويت»، ولما كانت أجهزة السينما غير متيسرة لغالبية الأهالي، اشترى الشيخ عبدالله المبارك جهازا، وأفرد له قاعة خاصة في قصره (قصر مشرف)، فتحها أمام الضيوف من داخل الوطن وخارجها.

تضامن.. وتسامح

عرف الشيخ عبدالله المبارك باعتزازه بكل ما هو عربي، ونبذه كل نعرات التمايز بين أبناء الأمة العربية، فقد كان نصيرا للفلسطينيين، وداعما للثورات العربية ضد المستعمرين، وكم كان يطربه سماع خبر عن قيام وحدة بين دولتين عربيتين، مثلما يحزنه أشد الحزن سماع نبرات التمييز بين عربي وآخر من أبناء الأمة، وقد تعددت مواقفه المشهودة في دعم العرب والعروبة عبر سني حياته كلها.

من تلك المواقف وقوفه في وجه سلطة الحماية البريطانية دفاعا عن الوافدين العرب إلى الكويت «ففي العام 1947، عندما وصلت الرحلة الأولى لشركة طيران الشرق الأوسط اللبنانية من بيروت إلى الكويت، أمر الوكيل السياسي بأن يحصل الزوار العرب على تأشيرات دخول، وتبين أن الطائرة تحمل أشخاصا يحملون تأشيرات حصلوا عليها من السفارات البريطانية في بلادهم، وآخرين من دون تأشيرات، فأمر الشيخ عبدالله بدخول من لا يحملون تأشيرة، ومنع دخول الحاملين لها، وقال: كلنا بلاد عربية، لا يجوز أن يحتاج العرب إلى تأشيرة لزيارة بلدانهم».

ولما كانت طلبات الراغبين في زيارة الكويت وقتذاك ترسل إلى مكتب الوكيل السياسي للحصول على الموافقة، أثار موقف الشيخ عبدالله حنق الوكيل البريطاني في الكويت، فارتدى «زيه العسكري وذهب لمقابلة أمير البلاد مبديا استياءه، فاتصل الحاكم بالشيخ عبدالله ـ الذي كان خارج الكويت ـ وأخبره بما حدث وبأن الوكيل السياسي سيكون في استقباله بالمطار، وأن عليه توضيح الأمر له، ثم الحضور لمقابلته لإبلاغه بالنتيجة.

وبالفعل، استقبل الوكيل السياسي الشيخ عبدالله في المطار ـ وكان معه سكرتير الحكومة عبدالله الملا ـ واقترح عليه الذهاب معا لمقابلة الحاكم، فطلب الشيخ منه أن يذهبا أولا إلى مكتبه بدائرة الأمن العام، وسأله الشيخ عن أسباب تدخله في أمور تدخل في صميم الشؤون العربية، وعما إذا كان هذا التدخل بناء على تكليف رسمي من حكومته أو مبادرة شخصية منه، فأجاب الوكيل السياسي بأنه يتحدث بصفته الشخصية، وأنه لم يكن يقصد التدخل في الشؤون الداخلية للكويت، وعندئذ سأله الشيخ لماذا ذهب إذن لمقابلة الحاكم بالزي العسكري، مما يعطي الانطباع بأنه موفد في مهمة رسمية؟ وانتهى الأمر باعتذار الوكيل السياسي، ولم يغير الشيخ قراره».

ومن الأمثلة على تكاتفه مع الدول العربية ضد كل ما يتهددها، وقوفه مع جمهورية مصر العربية خلال أزمة السويس سنة 1956 والعدوان الثلاثي الذي شنته بريطانيا وفرنسا وإسرائيل عليها.

فرغم وقوع الكويت تحت الحماية البريطانية آنذاك، ورغم منصبه الحساس كنائب للحاكم، ناصر الشقيقة مصر، وتمكن بحنكته من تلافي الهجوم البريطاني على الكويت.

فقد شهد الداخل الكويتي وقتذاك غضبا شديدا ضد بريطانيا ألهبته مشاعر الأعداد الكبيرة للمصريين في الكويت، وغيرهم من الكويتيين والوافدين من أبناء الجنسيات العربية الأخرى.

وتصاعدت الأحداث إلى حد تفجير عدد من أنابيب النفط. عند ذلك جمع الشيخ عبدالله «قادة التيارات القومية وأخبرهم بأن دعم مصر لا يكون بتفجير الأنابيب أو إلقاء القنابل، ولكن بالتبرع لها بالمال أو بالنفس.

أما الذين يريدون التبرع بالمال، فباب التبرع مفتوح، وأنا أول المتبرعين. والذين يريدون التبرع بالنفس والتطوع، فإن الطائرات موجودة، والسلاح موجود، وأنا أضمن وصولكم إلى مصر».

ولما كان حبه للعلم والثقافة والانفتاح الفكري وتقدير الكلمة وأصحابها صفة أصيلة من صفاته الشخصية، فقد عاش ذلك واقعيا مع أهل بيته، قبل أن يعيشه خارجه.

وأكدت ذلك طريقة تعامله مع زوجته الشيخة د.سعاد الصباح، التي كان يشجعها على حضور المجلس ومشاركة الحضور نقاشاتهم.

وما ميز ذلك أن المجتمع الكويتي في خمسينيات وستينيات القرن العشرين كان شديد التحفظ في مسألة المخالطة، ولم يكن يسمح للمرأة بتجاوز حدود المنزل وتربية الأبناء، بل إنه لا يزال في القرن الحادي والعشرين، وعلى نطاق واسع، يحظر عليها مشاركة الرجال مجالسهم، بيد أن الشيخ عبدالله المبارك لم يقف عند حدود ذلك، بل كان وراء حث زوجته على مواصلة تعليمها، ودفعها حتى حصولها على شهادة الدكتوراه.

زد على ذلك أنه كان أول المحتفين بها كشاعرة، وأول المشجعين لها على إقامة الأمسيات الشعرية.

وحدث كل ذلك في زمن ندر فيه أن تواصل المرأة تعليمها العالي، وكان من المستهجن فيه ظهور النساء على الملأ في مناسبات يحضرها الرجال.

وهذا ما سجلته د.سعاد الصباح في كتابها «رسائل من الزمن الجميل»، إذ قالت: «أهم ما في عبدالله المبارك أنه كان دائما مع العصر، ومع الحداثة، ومع الجديد، وهذه الحداثة في فكره تركت بصماتها علي وعلى أولاده.

وبالنسبة لي، لم يخبئني عبد الله المبارك خلف الستائر، ولم يحبسني في قارورة، وإنما أدخلني إلى مجلسه، وقدمني إلى زواره، وشجعني على المشاركة في كل الحوارات السياسية التي كانت تدور في ديوانيته.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى