لا زلت أذكره… بقلم #سلوى_معروف
هو رجل في الثلاثينات من العمر….يمتلك بشرة سوداء داكنة…وشفاه غليظة…طويل القامة…عريض المنكبين…يجتاح شعره خصل مموجة…جعدة…ذو عينين سوداوين واسعتين… يتخلل بياضهما…مشحات احمرار…في يده اليمنى وقفت مكنسة ذات عصا طويلة..وفي اليسرى أمسك طرف الحاوية
لفةٌ من الأكياس انتظرت هناك…في جيب زيّه الخلفّي…
ألتقيه كل صباح…أمام مدرسة أولادي …أركن السيارة أمام المدرسة… يترجّل أبنائي الأربعة … يعبرون بوابة المدرسة… ليبدأوا يوم حفر على الجماجم…أجلس في السيارة عشر دقائق أتأمله…
فهو يمتلك نصف مؤهلات الوسامة الذكوريّة…
من الواضح أنه يعمل بجدٍ…لكسب قوت يومه…
تراه يراقب الأرصفة عن كثب…يبحث عن المناديل الورقية الملقاة على الأرض التي ندُر وجودها والتي إن وجدها…يتراكض خلفها …كمن وجد كنزاً…
انغماسه…واجتهاده…ودقته في عمله…يثير فيّ الحماس والإعجاب…
هدوءه وصبره يحركا في داخلي…أمنية طالما خطرت ببالي وحلمت بها…
أمنية قد لا تروق لمعظم أو كل من يرى نفسه أو يتوهم أنه حالة عظيمة ورفيعة في هذا الوجود…
أمنية راودتني وأنا صغيرة… وأشغلتني وأنا شابة…
وأصبحت حلماً حقيقياً…في عمري الحالي الذي تجاوز الأربعين…
أن أسكن في كوخ صغير على حافة الرصيف…وأعمل في تنظيف الشوارع…وأشرد في الطرقات…أتأمل الشوارع والمارة وامتداد واعتكافات الممرات…وأعود إلى الكوخ…أغني وأنام…
الذي يكنُس الشوارع…لديه رؤية واضحة للأمور…ولممرات الزمان والأيام بتفاصيلها…يستطيع أن يرى خلف قاذورات الشوارع…نقاء ذاتياً…حو وسيلة للوصول الى معرفة أن القاذورات ما هي إلا أشياء اصطفيناها سابقاً واضمحل وهجها…وبهتت ألوانها…وفقدت جماليتها…فتخلينا عنها… وأن القاذورات الفعلية…هي ما نخلفه في الروح من سواد وليس ما ننثره على الطرقات…من بقايا ورماد…
من يكنُس الشارع….لديه شفافيّة وحرفيّة النحّات…فكلاهما يزيلا الشوائب لإظهار الجمال…نعم….هو نحّات…ينحت نشاط يومنا بمكنسته…
كل صباحٍ
أشير إليه بيدي…يقترب من السيارة….أنزل زجاج الشبّاك…أمد يدي أعطيه ما تيسر من النقود…يحني رأسه امتناناً… ويذهب…
أقود سيارتي…تعبرني بعض الأفكار في طريق العودة…ومن ثم تأخذني المشاغل اليوميّة ….ويغيب هذا المشهد عن خاطري…
كل صباح
يتكرر هذا الحدث….
شيء استثنائي…كان يلفت انتباهي في هذا الرجل…
ذاك الامتنان…الذي يتعدى شكره لي …ليصل الى حالة من الحمد للخالق…حين يحصل على النقود…يقوم بتقبيل النقود…ووضعها في جيبه…مع بريق سعادة واعتزاز بنعمة الخالق عليه…
سلوكه هذا يربكني…ويشعرني بضآلة وتفاهة ذاتي…هذه الأنا التي لا ترضى ولا تقنع…هذه الأنا التي تتراكض على لذائذ الدنيا وزينتهادون وعيودون إدراك
هذه الأنا التي لم تنجح تلك الشهادات المعلقة على الحيطان أن تقمعها أو أن تهذبّها
أتمعنه …
أتمعن ذاك الرضى الذي يشرق في عينيه امتثالاً لقدر الخالقيرقص سعادةأماناً,طمأنينة…
يثير إعجابي ذاك الخجل الذي يتخلل نظرته…
ذاك الحياء الذي لم تستطع قسوة الأيام حرمانه لياقة التعامل مع الآخرين وإتيكيت الزمن المعاصر أن تثنيه عنه…
ذاك الخجل الذي يتجلى احمراراً في وجنتيه…كلما اقترب من السيارة
تلك العفة التي تحوّل تواضع حاله…شموخاً…كبرياءً…رجولةً نشأت على العزة والكرامة…
وتعبر مخيلتي في تلك اللحظة مشاهد الذكورة المستفِزة على الضفة الأخرى…
التي لم يشتمل قاموس مفرداتها مصطلحات…كالخجل أو الرزانة أو الحشمة أو الطهر…
تلك الذكورة التي تنهش بالقوارير المارة…عيوناً فُتحت على مصراعيها…تلتهم بنظراتها كل ما هو جميل وغير جميل…
تلك الذكورة التي قامت بتعريب الفجور …مروءة تعتز بها…وحرّفت الابتذال …جسارة تمارسها على مرأى ومسمع الجميع…
تلك الذكورة التي عللت السفاهة تمجيداً للجمال الأخّاذو اعتلت المجون متعذرة بالمفاتن الصارخة…
تجتاحني حاجة للبكاء…
أفكر بوحدته…وأتخيل وحشة كل غريب…
لا ،لا ليس كل غريب…
بل كل غريب…اختار التعفف لغة ومنهاجاً لغربته…
وتحدى الجوع…
الجوع…
نعم حاجة الجسد إلى السعادة….وحاجة الروح إلى الأمان…وحاجة القلب إلى السكن والاستسلام…
هو جوع يتعدى المأكل والمشرب…
جوع…يدفعك بضراوة للبحث….عن الاكتفاء…
شراهة…تتعدى إرضاء المعدة…
تلهّف…يتخطى حدود النظر…
نعم…ربما…يسمى…حرمان مطلق..
ذاك الحرمان….حين يستشرس جوعاً يأكل أحشاءنا …يصرخ دون صوت…يبكي دون دموع…يتألم دون حزن…يريد…ولا يعلم كيف يريد…
حرمان قاتل…
حرمان ينهش بأطراف حياتنا كلها…فيحوّل هدوءنا صخباً صامتاً وسكينتنا أمواجاً هائجة…
حرمان …يحول حكمتنا إلى شباب طائش…
حرمان يلطم بنا الجدران هناوهناك…فنفقد توازننا واتزاننا معاً ونستسلم لجبروته…
وسخِط من فقه الأدمغة المعاصرة …
تلك الأدمغة التي اجازت للفسق…التعبير عن الذات…
وأهدته قرائن قانونيّة, شرعيّة, سيكولوجيّة…إثباتاً للتحليل الكامل…
فتعفف…
واختار أنيقدم نفسه كبش فداء…لرفاهية البشرية…
فنذر صباحه على مذبح…العطاء والتعاطف الإنساني…
وترك نفحات الخير تغمره…
نشوة انتصار على أنانية وحب الذات…
جهاد ….لإنتاج غبطة …تظلل الماريين…
تحمل وصبر….ليزيد من سعادة الأثرياء…والسائحيين…
ابتهال….بكونه أحد مظاهر الرقي والتقدم…
هو إنسانٌ…فاضل…
عاش الرجولة أخلاقاً…
فاستحق النبل…عنواناً…
عطّر صباحاتي…
ولا زلت أذكره…