أهم الأخبارثقافة و فن

مشانِقُ ملوّنَة …للشاعرة خولة سامي سليقة

 

فرقعةُ أصابعِ قدميها تخطو على الأرضِ مثيرةً و عطرُها النفّاذ (سكيب ) يضاجعُ أرجاءَ البيت،

ضحكاتي عقب أحاديثها المتفرّقة تحرث جفاف وقتي، أحبّ الصباحات تحتلها فوضاها منذ قرعِ الجرس إلى تلويحة الوداعِ قبيل الخامسة مساءً، تدخلني متاهاتِ الوصف حول صورته، عينيه، هيئته، حركات يديه و كل ما تحفظه عيناها منه، تلقي ذقنها الأبيض على راحتها اليمنى، تحلّق نظراتُها عالياً حتى لا يحدّها غيمٌ و لا مطر.

باسمةً أتابعها أثناء إعداد القهوة، تفركُ أرنبة أنفها بأصابعها الشّقية، يبدأ استذكار جنونِ رائحة القهوة برفقته، يتملّكني ضحكٌ مفزعٌ كلما أسهبت في نقل اليوميات الخالية من صوتهِ فما حدّثها و لا أخبرها عمّا يجولُ في خاطره، قلبُها الجريء وحده عرف ذلك.

صدّقتُها كما كنت على الدوام ، فليست أيّة أنثى عندي؛ رفيقة الشبابِ و سنوات الدراسة، جلستْ قربي في يومها الجامعي الأول بعد أن غيّرت اختصاصَها الأول، عرفتُ فيما بعد أن لها والدين مسافرين لكن ثمّة طارئ صحيّ ألمّ بوالدها دفعها إلى تعديلِ خطتها الدراسية.

الأسبوعُ الفائت كانت أطول لقاءاتنا بل أمتعها، أصبحت تأتي مبكرة توقظني من نوم ألجأ إليه سأماً، اعتقدتُ أنها اكتفت من الحديث عن هموم وظيفتها لامرأةٍ عاطلة عن العمل، احتراماً لمشاعرها و التزامها الأدبيّ بشروط زواجها مثلي.

لا عددَ لفناجين القهوة التي أسكرتنا ذلك اليوم، فيما أسهبت تحكي عن ربطاتِ عنقه الأخاذة متمازجة مع سمرةِ وجهه النقيّ، قوامهِ الممشوق و كيف أنه لا يلج باب لشركة إلا بثياب رسميةٍ، و ما كانت تكترث للأمر فيما مضى لولا جذبتها الألوان و الأشكال

المختلفة لربطات عنقه، صارت تبحثُ عن تاريخها و نشأتها، كيف أن من حكموا مصر قديماً وضعوا ما يشبه ربطاتِ العنق المرصعة، ثم بشكل بدائيّ ظهرت عند الرومان و الصينيين لكنّ من منحها مكانتها في عالم الأزياء هم الفرنسيون بعد أن أخذوها عن الكروات، استمعتُ إلى بحثها  المحموم فمي يقطر دهشة و عيناي بلغتا حدّ الجحوظ لِما أسمته يوماً دولياً لربطاتِ العنق في

كرواتيا .

رافقتني في أرجاء البيت من المطبخ إلى الصالة إلى الغرفة، تطوي الثياب معي تعينني على إعداد الطعام لا تترك شيئاً في خاطرها إلا تخبرني عنه، نالت ربطة عنقهِ البرتقالية مع قميصهِ الأسود نصيب الأسد من خطوط الفرح في وجهها، ذ لاحظتْ علاقةً بين مزاجه الفريد و بين ارتدائها، مما يجعل منها أنثى محظوظة بيوم يستحقّ التأريخ نشوةً و حبّاً، كلما رمقها خلسةً.هكذا أغرقتني الطفلةُ الكبيرة تلك بصورها المشبوبة حياةً، غدوتُ قادرة على تمييز فارس أحلامها بين جيش من الرجالِ، حتى جاء يومٌ أكلت المخاوفُ فيه رأسي، زوجي أحسّ ضياعي بل قلقي جرّاء اختفائها المباغت، نسبهُ إلى أمومةٍ كامنة بعد في روحي ستأتي بلا ريبٍ على هيئة طفل نسعى إليه، ترددتُ طويلاً لكنْ لا اتصال لا رسالة و ما كان هذا من طباعها، أرضيتُ نفسي وقتاً

إضافيّاً أنْ هذا من حقّها لعلّ فتى أحلامها خرجَ عن صمته، سرقها من عالمها و منّي، مترقبةً صباحاً تلو الآخر جرسَ بيتنا الأبكم دون جدوى، الفنجانُ الآخر تعب يُملأ ليفرغَ بلا شفتيها، حتى عقدت العزم لا انتظار بعد! في مكان عملها اختلط الكونُ بكمّ معلوماتٍ غريبٍ داخل رأسي ،لم أجد لحيرتي ما يطفئها، اقتحمت غرفة المديرِ بطريقة همجيةٍ، لكنّ توتّر الأخير و كثرة الاتصالاتِ الواردة إليه بالإضافة إلى جفائهِ، لم تمنعني من الإلحاح مرّات و مرّات في السؤال، سيما أنهم افتقدوها بادئ الأمر مثلي، جميعاً

حاولوا التواصل معها بطرقٍ عدة ما وجدوا إجابةً، بنفادِ صبر طرحت عليه سؤالي الأخيرَ حول شابٍ مسلمٍ غير عربيّ كان يعمل معهم في قسمها، لم يعد هناك مبرر للخجلِ رحتُ أصف ملامحه،حركاته ،ثيابه ،ربطاتِ عنقهِ الملونة و كلّ ما عرفته عنه من خلالها، ليأتي الرد صادماً قاسياً:

لقد تركت العمل دون سابق إنذارٍ منذ فترة طويلة جداً قبل التاريخ الذي تسألين عنه، و بخصوص الشاب المذكور لم يعمل معنا أيّ موظفٍ غير عربيّ، و لا آخرون بهذي الصفات، منذ افتتاحِ الشّركة!.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى