يا لجمال عصبة جبينك الخمريّة … بقلم سلوى معروف

 

في كوخٍ من الصفيح والكرتون…أقيم على عجل في منطقة وعرٍ جبلية…

مع تكبيرات الفجر الأولى..تستيقظ..

جرّةٌ من المياه رُكنت في إحدى زوايا الكوخ..

تأخذ صاعاً من المياه وتتوضأ..

تصلي الفجر..تنتهي من الأذكار الصباحيّة..

تضع عليها ثوبها وخمارها..تشدّ مئزرها على خصرها..تربط عصبتها على جبينها..

حذاء الكاوتشوك الأسود في قدميها..

تقبّل ابنتها وأحفادها..على فرشة إسفنج قديمة..يحلمون بغدٍ أجمل..

تضع بؤجتها على رأسها..وتتوكل على الله..

وتشدّ الرّحال..

تشقّ طريقها بين الوعر..

خطوات عزيمة لا تزعزعها حلكة ظلام ولا صخور أرض..

عشرون دقيقة..تصل الى الشارع العام لمنطقة خلدة..تقف على طرف الشارع ..وتنتظر

تنتظر الحافلة..

ربما تنتظر عشر دقائق..ربما نصف ساعة..وإن لم يحالفها الحظ..تنتظر ساعةً أو أكثر..

خمس وثلاثون دقيقة في حافلة تتراقص من أثر الزمن..

تصل إلى محطتها الثانية..جسر الكولا..

حيث تتزاحم الباصات..وسيارات الأجرة..والمسافرون …

تنزل من الحافلة..تضع بؤجتها على رأسها..وتعاود التّرحال مترجّلة هذه المرة لنصف ساعة حتى تصل إلى أحد أحياء بيروت “الرّاقية”..

تتّخذ من إحدى زواياه ركناً تفترش فيه بؤجتها..

أوراق عنب خضراء طازجة..جُمعت رُزماً بخيطان من القش..عناقيد حصرم تشتهيها العين..

لوبياء خضراء عريضة تنفرج لها السرائر..

هندباء..سلق..لوف..نعناع..بقدونس..وبعض أوراق الخس..

حملٌ أثقلَكاهلها سنواتٍ طوال..وما تذمّرت

تنتظر ساعات الصباح وخطوات العابرين والقاصدين..

خطواتٌ متّوجهةٌ لأشغالها وأعمالها..

خطواتٌ سريعةٌ تمارس الرياضة..

خطواتٌ هادئةٌ متأملةٌ تقوم بجولة الصباح..

خطواتٌ بأحذيةٍ لامعةٍ تحمل حقائب الحاسوب..

وخطواتٌ خجولة تتّجه نحوها..

تترامى عليها النظرات من هنا وهناك..

نظراتٌ تشتُم صامتة..

ونظراتٌ عابرة صاخبة..

ونظراتٌ متأملة..لا تعلم ما يدور في جوفها..

ونظراتٌ مستهزءة  ناقمة..تعتبر أن هذا المنظر مشوّه لأناقة المنطقة وأرستقراطيتها..

وفي مقابل كل تلك النظرات..تسكن

كمن يحمل جمراً في يده..ويبتسم لجلاده برحابة صدر..

أمرُّ عليها كل صباح..

صباح الخير يا أمي!!

صباح الخير يا ابنتي!

أعطني من كل الأصناف التي لديك..

أجلس إلى جانبها نتبادل أطراف الحديث..وأعود إلى المنزل..

يتكرر هذا المشهد يومياً..

وفي أحد الأيام تسألني..

“يا يمّا انتو توكلوا كل يوم نفس الشي؟”

قلت لا, وابتسمتُ..

قالت: فلماذا تشترين كل يوم مني؟

قلت: لانه يسعدني أن أبدأ صباحي..بلُقياكِ..

فلُقياكِ في الصباح بَرَكة…

وفي يومٍ آخر..سألتني..هل عشت يوماً الفقر؟

قلت : نعم, وعشت أمرّ من الفقر

قالت : ما هو؟

قلت :الحرب الأهلية..

قالت: ما أمرّ ما فيها؟

قلت :أن تُقتلي وتُعذَّبي وتُظلمي..ولا تعلمين لماذا؟

عدت للمنزل ,وفي الصباح التالي..

مررت عليها وسألتها: ما أمر من الفقر؟

قالت: أن ينهش بك المارة بنظراتهم المشمئزة..فلا تعلمين ما تقولين..

قلت : أنا أقول لك ما تقولين…

 

قولي لهم أنّك بدويّة.

قولي لهم أنّك مثلهم  شرقيّة..وجميع خلاياك عربيّة..

قولي لهم يا بدويّة..أنّك تشرقين مع شروق الشمس ..وتغربين مع غروبها

قولي لهم أن سمارك لفحة شمسٍ طبيعيّة..

قولي لهم أنّك أميّة..ولكن في خطوط يديك تشعّ أبجديّة الإنسانيّة…وليتذّكروا الرسول الأميّ..قائد البشريّة..

قولي لهم يا بدويّة..أن رائحة أنفاسك نعناع وريحان عضويّة

قولي للمارين المستهزئين..أنّك ما اخترت الشقاء ..ولكنّك اخترت العيش مرفوعة الجبين..أبيّة

قولي لهم يا بدويّة أن زمن الخنوع ولّى..ولم تعد الأرملة تنتظر..شفقة المحسنين..محنِيّة

علميهم يا بدويّة الحداثة..بأخلاقٍ شرقيّة

قولي لهم أنّك ما عرفت الشوكة والسكّين..ولكنّك تُتقنين احتضان أحفادك بالحب والحنين

قولي لهم يا بدويّة..قولي للطواويس المتعجرفة..أن أموالهم جٌمعت وكُدّست بعرق الجبين..

جبينٌ بعصبةٍ بدويّة..

علّمي الرجولة النائمة حتى الظهيرة..وتلك المتسكعة في المقاهي ترتشف النرجيلة..

أن بطونهم تُتخم..بعرق امرأةٍ بدويّة..تحمل منجلاً بيدٍ وتضم بالأخرى أحفاداً طريّة..

فلتنظر العروبة الى بدويتك ولتفتخر..

ولتنظر الرجولة الى مروءتك ..ولتخجل.

يا بدويّة..يا حنطيّة..علميهم كيف يكون الإباء

علميهم أن الكرامة ..ليست حكراً على الأغنياء

علميهم يا بدويّة فلسفة الحب.. والعطاء

يا من علمتنا أن العطاء..يتخطى حدود الكرم..ليكون قضيّة

فإن كانت الأوطان قضيّة ..فأنت أجمل الأوطان

وإن كان العطاء مقياسٌ للإنسانيّة..فأنت منبع الإنسانيّة

قولي لهم يا حنطيّة..أن الكروم التي تفلحين..يتخذون منها خمراً لسعادتهم

قولي للنساء الجاهلات ..أن الحنّة التي يتزيّن بها..أنت تصنعين

قولي لهم يا بدويّة..أن كوخك من الكرتون والقصدير..ينش رزق رب كريم

وأن حديقتك..سهول لبنان وغاباتها

قولي لهم يا حنطيّة..أن لديك فساتين من استبرقٍ وحرير..عند ربٍ عظيم

قولي للنساء الجميلات أن لك قلادة وأساور من الياسمين..بها تتجمّلين.

 

قولي لهم أن لك أحلامٌ عابرة للقارات..سلامٌ ومحبّةٌ وعدل

قولي لهم أنك امرأة بفنون حريّة..حريّة الصقوربعد المغيب

علمي نساء الصالونات والمتجمّلات..كيف تكون أم الدنيا

حدّثيهم يا بدويّة عن حقول القمح التي تروين..

وعن السنابل التي تحصدين وأنت تسبّحين..

قولي لهم أنّك على أصوات البلابل والهدهد..تستيقظين..تصلين الفجر..وتتأملين

 

قولي لهم يا بدويّة..أن لك ثدي أنثى..وأطفالك كنت ترضعين

قولي لهم أنّه قبل موت زوجك..كان يتغزّل بك..وكنت به تتغزّلين

قولي لهم يا حنطيّة..أنه في صباكِ عرفت العشق..وكنت للحبيب تنتظرين

وكنت تجمعين ثمارهم..وأنت تغنين

قولي لهم أن اسمك “زهرة” وأنّك به تفتخرين

قولي لهم يا بدويّة..أنهم يضعون ثرواتهم في خزائن..وتضعين ثروتك في طين

 

قولي لهم أن البداوة أصل الحضارة..فلينظروا ماذا فعل البدو..أصحاب الريادة

قولي لهم يا بدويّة..أنه من اللبن الذي تحلبينه بيديك..شبّت رجالاً أصبحوا للدنيا ..قادة

انسانيةً ورحمةً..عزةً وشموخاً..وثقافة

قولي لهم يا بدويّة..أن البداوة صنعت أبراجاً تعانق السحاب..وبنت أوطاناً تنافس في محافل الرقيّ والتقدم..على الصدارة

علميهم يا بدويّة حكمة الزمان..

 

يا سمرة القمح عند المغيب..

يا صاحبة عصبة الجبين الخمريّة..

ذاك الجبين الشامخ الذي لم ينحنِ إلاّ لخالقه

أقبل يديك الطاهرتين..

وأعتزّ بشموخك..

وأغار منك..لأنّك بدويّة