مبادرة الحضارات … بقلم محمد حبيب المحميد
يقبل العالم اليوم مع الإدارة الأمريكية الجديدة ، وانفصال المملكة المتحدة عن الإتحاد الأوربي ، ومؤشرات الانتخابات في العديد من دول أوربا ، يقبل نحو انغلاق الدول على ذاتها ، والتفات الدول لمصالحها القومية ، بعد عهد من العولمة التي تعددت تعريفاتها بعدد المفكرين والفلاسفة الذين كتبوا عنها وفيها وضدها ، إلا أن الأحداث أكدت أنها لا تخرج من كونها تعميم للنموذج الغربي لشكل أنظمة الحكم والإقتصاد ، وتكريس لهيمنة القطبية الأحادية على العالم ، بينما اليوم وبعد الفشل الذريع الذي منيت به ، طرحت الشعارات البديلة التي لا تعدو سوى كونها رجوع إلى ما قبل العولمة ، أي خطوات إلى الوراء لا يمكن تحققها ، في ظل الثورة التقنية في مجالي الاتصالات والمواصلات في عالم اليوم وعالم المستقبل .
فشل العولمة لم يكن فقط نتيجة الخلل في النظرية المطروحة ، أو خلل في تطبيق تلك النظرية ، إنما هناك مشاريع أخرى زاحمت وقاومت هذه النظرية ، خصوصًا بعدما كشرت عن أنيابها الحادة في عهد اليمين المتطرف في أمريكا ، عندما طرح الفلاسفة نظريتي صراع الحضارات ونهاية التاريخ ، وسعت الإدارة الأمريكية آنذاك إلى تطبيقها ، وهي مرحلة متطورة من العولمة بالمفهوم الذي طرحناه ، أي تعميم النموذج الغربي واعتباره نهاية التاريخ ، وأي فكر وطرح مخالف ، سيشكل صراعًا حضاريًا وجوديًا ، والمطلع على النظرية يعي أن النماذج التي طرحت كطرف الصراع الآخر هو الحضارة الشرقية الصينية ، والحضارة الإسلامية ، وعلى ذلك بنيت الإستراتيجيات والسياسيات التي يعاني العالم من ويلات صراعاتها.
هذه المقاومة الحضارية سواء الصينية أو الإسلامية ، كان لها الدور الفاعل في إسقاط العولمة فضلًا عن الخلل النظري والتطبيقي ، وهذا يعني أن لا تقف هاتين الحضارتين بالذات عند هذا الحد ، أو تبقى في محل رد الفعل ، بل لابد من المبادرة لتشكيل ملامح العالم في المرحلة المقبلة ، فلا يحق لأصحاب الفشل اخذ زمام المبادرة في تشكيل مرحلة جديدة من الصراع باسم مصالح الدولة القومية ، لأن فشل العولمة لا يعني فشل التفاعل الحضاري والتواصل بين المجتمعات ، إنما يعني فشل تلك النظرية التي أعلنتها الإدارة الأمريكية يومًا ما بفلتات لسان رئيسها آنذاك : إما معي أو ضدي .
لا يمكن القبول بالإنتقال من صراع الهويات للمحافظة على نفسها أمام العولمة ، إلى صراع الهويات لحفظ مصالحها الخاصة ، والحل يكمن في استدامة التفاعل الحضاري خصوصًا بين الحضارات الثلاث الشرقية والإسلامية والغربية ، مع حفظ الخصوصيات واحترامها ، فالتعددية هي سمة البشرية منذ اليوم الأول ، وبدلًا من التنظير في أهمية هذا التعدد ، والحديث عن مضار المنطق الثنائي المذكور –إما معي أو ضدي- فالواقع العملي العالمي يغنيك عن الحديث ، نعم لا يكفي مقاومة تعميم النموذج الغربي ، ولابد من المبادرة في تأسيس نموذج متعدد.
والمبادرة اليوم ينبغي أن تتجاوز حوار الحضارات إلى تفاعلها ، على طريقة حبة الدواء في جسم الإنسان ، فكل حضارة تتفاعل مع الأخرى بما يلائم جسدها الثقافي والفكري وتلفظ ما لا يلائمها ، فالتعايش السلمي ليس ضربًا من الخيال أو المثالية الغير ممكنة التحقق ، إذا ما توافقت الإرادات الحضارية وبادرت إلى إنقاذ العالم بتشكيل مرحلة ما بعد العولمة دون انتظار منظري التمزيق باسم المصلحة القومية ، فمن أدخلنا في حلبات الصراع سيخرج دون أن يخرج الآخرين منها ، إذا ما بقت الحضارات والأمم في موقف رد الفعل دون المبادرة.
همسة أخيرة في هذا المقال إلى صناع الرأي والقرار في العالم الإسلامي ، إن التسامي على الجراح ، ونبذ الطائفية المبعوثة من التاريخ المنحرف ، والتداعي للتوافق الإسلامي على مشتركات إنسانية وإسلامية تجمع كل مكونات دولنا وشعوبنا حتى من غير المسلمين ، اقتداءً بميثاق المدينة لنبينا الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) ، هو فقط ما يجعل لأمتنا دورًا حضاريًا في المرحلة المقبلة ، فالله الله في حضارة الإنسان المحمدية