أهم الأخبارتقارير

دراسة :كيف ستتغير ملامح الحياة في دول الخليج بعد وباء #كورونا؟

دول الخليج مرشحة لتجاوز الصدمة قبل نظيراتها العربية

–          أغلب الدول ماتزال تحت أثر الصدمة وتداعيات الوباء لم تظهر بعد

–          الأفكار الشبابية المبدعة قد تكون الفرصة الوحيدة لاجتياز تداعيات الوباء

–          تراجع تقييم الاستثمارات والأصول الخارجية الخليجية

–          تقليص اقتصاد الدولة واحتمال زيادة المضي في الخصخصة

–          تأثر الخطط التنموية بالتقشف

–          دول الخليج قادرة على استيعاب الصدمة خلافاً للدول العربية

–          أزمة أمن غذائي ومائي وصحي بسبب استنزاف الموارد الطبيعية

–          تأثر القطاع المالي والسياحي

–          اندماجات متوقعة وموجة تغيرات للقياديين في القطاع العام والخاص

–          تغير محتمل لثقافة العمل والاستهلاك لدى الخليجيين

–          تقلص محتمل لبعض الامتيازات واحتمالات الضريبة على الدخل

–          تقشف خليجي يمنع توسع دائرة الفقر خاصة بين محدودي الدخل

–          الرهان على الشباب والابتكار والرقمنة

–          تقلص الاعتماد على النفط

–          مخاطر زيادة التبعية للخارج تعزز سياسات تحقيق الاكتفاء الذاتي

–          تأخر وتيرة بعض المشروعات وتأثير ذلك على الأحداث الكبرى المنظمة في دول الخليج

–          الكويت بين أسرع المتعافين الخليجيين المتوقعين

–          زيادة التداين المؤسسي والفردي لتمويل فرص الاستثمار المحلي

 

ملخص الدراسة:

يواجه الخليجيون بعض التحديات غير المسبوقة للحفاظ على مستوى الرفاه مستقبلاً. ففي الوقت الذي كشف فيه وباء كورونا نقاط ضعف في استشراف الازدهار والرفاه لأجيال المستقبل في الخليج، اتضحت في الوقت نفسه عناصر قوة تدعم قدرة الدول الخليجية على مواجهة الأزمات، ولعل أبرزها استقرارها السياسي وتلاحم مجتمعاتها فضلاً عن الملاءة المالية التي تمكنها من انقاذ شعوبها من ارتدادات عاصفة الفيروس التي لم تهدأ بعد.

وحسب النتائح التي توصلت اليها دراسة لمركز الشرق الأوسط للاستشارات السياسية والاستراتيجية (MenaCC) حول “توقعات تداعيات الجائحة على مستقبل ازدهار دول مجلس التعاون الخليجي”، فان مجمل البلدان الخليجية ستتأثر بشكل متفاوت يصل الى توقع تغيرات جوهرية في حياة الخليجيين على المدى المتوسط. اذ من المرجح أن تؤثر تداعيات الجائحة على الخطط التنموية الكبرى وعلى تقدم المشاريع وأولوياتها وعلى سوق العمل ومجمل القطاعات.

وان ستتكبد البلدان الخليجية بعض الخسائر جراء الوباء مع توقع كلفة انقاذ اقتصادي واجتماعي باهظة، الا أن استفادتها المحتملة والمستقبلية قد تكون أكبر خاصة على مستوى توقع زيادة التنافس الخليجي على تحقيق اكتفاء ذاتي وتقليص التبعية للخارج وترشيد استهلاك الموارد وإصلاح الاختلالات خاصة على مستوى التركيبة السكانية المستنزفة للثروات، فضلا عن توقع زيادة التعويل على الطاقات المحلية بدل الأجنبية وتمكين الشباب وتسارع التنافس على الاستثمار المحلي والابداع والابتكار من اجل تنويع مصادر الثروة.

وعلى الرغم أن شكل حياة الرفاه المتوقع في دول الخليج قد يتغير الى الأبد تدريجياً، الا أن الخليجيين قد لا يواجهون تقشفاً موجعاً كما هو متوقع في دول أخرى، وقد يعتبرون أكثر حظاً من غيرهم في العالم العربي في تجاوز الصدمة التي سيخلفها الوباء.

وعلى الأرجح ستؤثر مسارات ادارة الأزمات المترتبة عن جائحة كورونا في المرحلة المقبلة على ثقافة المواطن الخليجي وعلاقته بالعمل والاستهلاك. لكن تبقى هناك نظرة مقلقة حول مدى تأثر أصحاب الدخل المحدود والفئات المجتمعية الضعيفة بسياسات التقشف المستقبلية التي قد تقلص من فرص دخل الأفراد والأسر. لكن تبقى هناك نظرة متفائلة حول استمرار سياسات الدعم التي من شأنها دعم القدرة الشرائية للمواطن الخليجي.

ومن المرجح أن يقبل الخليجيون على مرحلة قد تشهد تدريجياً تغير مفاهيم كثيرة وفي مقدمتها تعريف المواطنة ليصبح أكثر براغماتية ومرتبط بمدى التزام الفرد بالأداء والمردودية والمشاركة الفاعلة في التنمية والبناء بدل المفهوم المرتبط بمدى الاستفادة من الامتيازات داخل اقتصادات ريعية قد تشهد تحولات كبرى على المدى المتوسط والبعيد.

تأثر الخطط التنموية بالتقشف

الخطط والرؤى التنموية الخليجية قد يتأثر جزء من برامجها أو مشاريعها بتداعيات وباء كورونا وتقليص الانفاق، وقد تتأخر أيضاً مواعيد تسليم بعض المشاريع ما قد ينعكس على تأخر محتمل ومتباين في استكمال تنفيذ الرؤى التنموية الكبرى على المدى المتوسط والبعيد في حال استمر النفط مستقراً عند متوسط أقل من 50 دولاراً لسنوات مقبلة، الأمر الذي سينعكس حتماً على تراجع الفوائض المالية.

وضمن التوقعات، من المرجح أن المقاربات التقليدية للاقتصاد الخليجي قد تتغير. فعلى عكس ما قامت به من إجراءات لامتصاص ارتدادات الأزمة المالية العالمية في2008، قد لا تملك دول الخليج قدرة المناورة على المدى المتوسط في التعامل مع التداعيات الاقتصادية المترتبة عن وباء كورونا.

ولم تترك المقاربات التقليدية لمسارات التنويع الاقتصادي لدول الخليج العربية إلا القليل من القدرة على المناورة والاستجابة طويلة الأمد لاستيعاب الصدمات لمواجهة التحديات الاقتصادية الملحة في عام 2020 والسنوات الخمس المقبلة. ولا يمكن للدول الخليجية أن تتجنب أو تتجاهل التداعيات الاقتصادية جراء انخفاض أسعار النفط واستمرار تفشي فيروس كورونا، ولكن يمكن في المقابل للحكومات اتخاذ خطوات حاسمة لجعل اقتصاداتها أكثر مرونة في المستقبل[1].

وعلى صعيد آخر، من الوارد جدا أن المشاريع الكبرى في دول الخليج يمكن أن تتأثر وتيرة إنجازها في بعض الدول بسبب تقلص متوقع للإنفاق العام.

حياة الرفاه وأجيال المستقبل

ما ان تهدأ عاصفة فيروس كورونا، ستتضح معالم آثار الأضرار التي تكبدتها الاقتصادات العربية والخليجية، حيث أن أغلب الدول ماتزال تحت واقع الصدمة ولم تمر بعد لمرحلة استيعاب التداعيات. وقد تكون دول الخليج العربي الأكثر حظاً عربياً وإقليمياً في استشراف خطط انقاذ ممكنة للحفاظ على حياة رفاه مع تحمّل تكلفة باهظة مقابل تقشف واصلاحات غير موجعة مقارنة بالدول العربية الأخرى.

وقد تكون دول الخليج مجبرة على فرض إصلاحات جوهرية في منظومة اقتصاداتها وأسواق العمل، الا أن هذه الإصلاحات وان تبدو ضاغطة على نسق حياة الرفاه في المدى المتوسط خاصة على مستوى التقشف وحتى ان لاقت انتقاداً شعبياً، الا أنها قد تكون الحلّ الأفضل والآمن للحفاظ على تنمية مزدهرة لمستقبل أجيال الخليج.

وقد تسرع تداعيات الوباء اجراء إصلاحات كانت الحكومات الخليجية تتردد في تنفيذها أو هي مؤجلة منذ سنوات طويلة وذلك خشية رفض شعبي لها، الا أن الإصلاح بات ضرورة قد تضطر الحكومات بموجبه لتسريع تنفيذ خطط أهمها تنويع الإيرادات وترشيدها وزيادة تطبيق الحوكمة وهيكلة اقتصاداتها الوطنية وتقليص التعويل على اليد العاملة الأجنبية.

يكشف وباء كورونا تباعاً نقاط ضعف في دول الخليج قد تؤثر على النظرة المستقبلية لنموها وتحولاتها الاجتماعية والسياسية على المديين المتوسط والبعيد.

نقاط الضعف تمثلت في مدى هشاشة اقتصادات دول الخليج وسرعة انكشافها على الأزمات العالمية نظرا لتبعيتها المفرطة لحركة الأسواق الخارجية واعتمادها بشكل متفاوت على مصدر وحيد للثروة وهو النفط والغاز، ثانياً محدودية تنوع إيراداتها، وثالثاً قلة التعويل على رأس المال البشري الوطني، رابعاً محدودية التعاون المشترك بين دول الخليج وعجزها عن تحقيق اكتفاء ذاتي بينها خاصة على مستوى الأمن الغذائي والوظيفي والصحي.

ومن المرجح أن التغيرات السريعة التي ستنجر عن جائحة كورونا قد تسرع تنفيذ أولويات اصلاح جوهري وعميق يطال إدارة مرافق الدولة والقطاعين العام والخاص والعلاقة بينهما على المدى القريب، حيث قد يكون الاصلاح الطريق الوحيد لضمان الاستقرار على المدى البعيد.

زيادة المخاطر على الثروات السيادية الخليجية

ترجح التوقعات أن العائد على الاستثمارات والأصول الخارجية خاصة ذات المخاطر العالية لدول مجلس التعاون سيكون متذبذباً في المرحلة المقبلة. وقد تراجعت تقديرات قيمة أصول الصناديق الثروة السيادية الخليجية هذا العام بشكل حاد مقارنة بعام 2019[2] وقد يتعمق هذا التراجع وصولاً لتسجل أكبر نسبة انخفاض غر مسبوق لقيمة الثروات الخليجية الخارجية إذا طالت فترة الركود الاقتصادي بسبب تداعيات الجائحة.

وتضررت أغلب صناديق الثروة لدول مجلس التعاون بتداعيات ركود الاقتصادي العالمي جراء الاغلاق المستمر للحد من تفشي الوباء. وتراجعت قيمة صناديق الامارات الى (1.096 تريليون دولار)[3] والكويت (533.6 مليار دولار)[4] والسعودية (320 مليار دولار)، وقطر (295 مليار دولار)، وعمان (18.6 مليار دولار)، والبحرين (16.7 مليار دولار)[5].

تلك الصناديق تكبّدت خسائر كبيرة بسبب تداعيات وباء كورونا الكارثية على الاقتصاد العالمي، حيث انخفضت أسهم غالبية الشركات الكبرى في جميع بورصات العالم، وبحسب تقرير لرويترز أواخر مارس، خسرت صناديق الثروة السيادية الخليجية نحو 300 مليار دولار. وكان معهد التمويل الدولي قدر سابقا حجم خسارة صناديق الثروة السيادية الخليجية بنحو 296 مليار دولار بنهاية العام الحالي، يأتي معظمها من تراجعات سوق الأسهم، والبقية من تخارجات تقوم بها الحكومات التي تشتد حاجتها إلى السيولة.

وتجدر الإشارة الى أنه في ظل الوضع المالي الحالي، هناك خطر احتمال استنفاد الفوائض والثروات المالية في المنطقة بعد 15 عاماً المقبلة، وهذا الخطر يدفع الى ضمان الاستدامة المالية في السنوات المقبلة، حيث ان إمكانية تأثرها سلبا قد يهدد أجيال المستقبل. ويتطلب حفاظ الدول الخليجية على ثرواتها الحالية بالكامل تعديلات مالية ضخمة مسبقة، ومن أجل ذلك فهي مضطرة لبذل المزيد من الجهود التدريجية للتخفيف من عبء التكيف قصير الأجل ولكن قد يكون ذلك على حساب الموارد المالية المتاحة للأجيال القادمة[6].

على صعيد آخر، فان الصدمة المزدوجة التي خلفها وباء فيروس كورونا المستجد على دول الخليج بدخولها في أزمة صحية واقتصادية غير مسبوقة ينضاف اليها هبوط أسعار النفط، من شأنها أن تعطل وتيرة مسار الجهود المبذولة لتنويع الاقتصادات الخليجية. حيث قد يتطلب ذلك تخصيص موارد إضافية على حساب احتياطاتها المالية، في حين قد يكون الخيار الوقتي يتمثل في تأجيل انجاز عدد من المشاريع الكبرى.

وفي الوقت الذي طفت على السطح الحاجة إلى زيادة الإنفاق الحكومي لتعويض التأثير السلبي لجائحة كورونا، برزت مخاطر تآكل الاحتياطيات المالية وزيادة تراكمات العجز في السنوات المقبلة. حيث باتت دول الخليج مطالبة بزيادة تنويع مواردها لتخفيض سعر تعادل النفط الى متوسط بين 40 الى 50 دولارا خلال الخمس سنوات المقبلة كإجراء احترازي.

دول الخليج قادرة على استيعاب الصدمة خلافاً للدول العربية

على الرغم من تفاوت استعدادات دول الخليج لاستيعاب أزمات مستقبلية، الا أنها قد تكون في وضعية أفضل من باقي الدول العربية وغيرها من الدول محدودة الايرادات وخاصة على مستوى القدرة على تحمل التداعيات وتمويل العجز المترتب عن الركود الذي سيخلفه الوباء. لكن وان كانت قدرة دول الخليج وملائتها الملاية تمكنها من تحمل صدمة ارتدادات الركود الا أن احتياطاتها المالية قد تتآكل سريعاً إذا تعمّقت الأزمة في الخليج في ظل الاختلالات الحالية.

وان لم تنجلي بعد آثار الصدمة التي خلفتها الجائحة على اقتصادات الدول العربية، الا أن دول الخليج لديها القدرة على الأقل على امتصاص الصدمة على المدى القريب خاصة مع توفر ملائة مالية يمكنها أولاً تعويض الخسائر المباشرة المترتبة عن شلل جزء من اقتصاداتها وثانياً الاستجابة للحد الأدنى من المطالب الشعبية وأخيرا عدم الاضرار على المدى القريب بالقدرة المعيشية والشرائية للمواطن، لكن قد تكون النظرة مقلقة على المدى المتوسط اذ تأخرت وتيرة تنويع اقتصادات دول الخليج واستمر تضخم الانفاق وسيطرة الدولة على الاقتصاد.

حتى الآن تفاوتت الاستجابة للوباء بشكل كبير بين دول الشرق الأوسط والمغرب العربي، على الرغم من أن معظمها قد اتخذ تدابير وقائية تشمل الحجر الاجتماعي ووقف الكثير من الأنشطة الاقتصادية، الا ان دول الخليج استبقت مرحلة ما بعد الوباء بسياسات التحوط المالي لتمويل خطة انقاذ شاملة. لكن بقية دول الشرق الأوسط والمغرب العربي هي بصدد البحث عن موارد لتمويل خطط انقاذ عاجلة خاصة للجانب الاقتصادي والاجتماعي في ظل تراكم تاريخي لمديونية هذه الدول ما قد يمثل لها عائقا كبيرا للتنمية على المدى المتوسط.

من المحتمل أن تؤدي ردود فعل الدول العربية ضد التهديد الذي يمثله فيروس كورونا المستجد إلى تعقيد بعض المشاكل القائمة في المنطقة، خاصة في سياق دولي مليء بالتحديات. وقد ينتج عن ذلك أن تتحول الصعوبات الاجتماعية والاقتصادية إلى أزمات سياسية وأن تزيد حدة مطالب التغيير التي تنتشر عبر بلدان الشرق الأوسط والمغرب العربي. ما لم يتم توفير لقاح فعال ضد هذا الوباء، فإن التكلفة الاقتصادية والاجتماعية للقيود الصارمة التي تفرضها الحكومات العربية قد تكون باهظة الثمن، وقد لا تستطيع المجتمعات تحملها طويلاً[7].

وقد أبدى صناع السياسة الخليجيون استعدادا لتبعات انخفاض أسعار النفط إلى ما دون الـ 30 دولارًا للبرميل وارتفاع حالات الاصابة بفيروس كورونا الذي يعطل الأسواق العالمية. ومع ذلك، فإن بنية اقتصادات دول الخليج العربية ومسار التنمية الاقتصادية في المنطقة ستعمل على تعقيد جهود الحكومات في العودة إلى وضع ما قبل هذه الأزمات المتداخلة وغير المسبوقة.

بعيدًا عن عائدات الطاقة الهيدروكربونية، لا تزال عملية التنويع الاقتصادي مستمرة ومكلفة في دول الخليج. اذ تعتمد الصناعات غير النفطية ذات الأولوية العالية والمخصصة لجهود التنوع بشكل كبير على تدفق البضائع والمستثمرين والزوار الأجانب، وهو ما قد يجعل اقتصادات دول الخليج غير النفية مرتبطة أكثر باتجاهات وتقلبات الأسواق العالمية. ويبدو أن حتى القطاعات غير النفطية في دول الخليج حالها كحال صناعة البترول، حيث شهدت صدمات مفاجئة، ويبدو أنها ستواجه عاماً صعباً في 2020.

وقد أطلقت الحكومات الخليجية حزم حوافز طارئة لتوفير الإغاثة الاقتصادية الفورية للسكان والمؤسسات، ولتوفير السيولة والدعم المالي خاصة للشركات الصغيرة والمتوسطة وتشجيعها على المبادرات في مجالات غير نفطية ومتنوعة. ومن المرجح أن تصبح الصناعات الرقمية والخدمات عن بُعد أهم المصادر الملهمة للمشاريع المستقبلية ضمن خطط التنويع الاقتصادي الخليجي[8].

وفي الواقع، تمتلك دول الخليج احتياطيات هامة من العملات الأجنبية الضخمة ونسب منخفضة من الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي وهي عوامل من شأنها أن تسمح لها بخروج آمن من المشاكل التي ستخلقها تداعيات الوباء قريبة ومتوسطة الأمد.

أزمة أمن غذائي ومائي وصحي بسبب استنزاف الموارد الطبيعية

الارتفاع الكبير في عدد سكان دول الخليج قد يزيد من مخاطر استنزاف موارد هذه الدول الطبيعية خاصة المياه والغذاء، وبالتالي بات من الضروري إعادة الحكومات الخليجية النظر في تركيبتها السكانية التي تفاقمت أكثر من الحد الذي تحتمله موارد هذه المنطقة. الى ذلك فقد يكون هناك خطر حقيقي متنامي قد يواجهه أجيال المستقبل في المنطقة يتمثل في شح الموارد ومواجهة أزمة أمن غذائي ومائي وصحي.

على صعيد آخر، يمثل الزحف السكاني في دول الخليج وخاصة في الدول الصغيرة خطرا داهما يهدد المساحات الخضراء الصالحة للزراعة، كما يستنزف أيضاً مصادر المياه. أما على مستوى قطاع الزراعة في دول الخليج فهذا القطاع قد يشهد إصلاحات واستثمارات وتسهيلات ائتمانية أكبر في المستقبل خاصة على مستوى استصلاح الأراضي وتعزيز الموارد المائية، حيث ثبتت مخاطر سواء على الأمن الغذائي الخليجي أو على نسبة الاكتفاء الذاتي من المنتجات الأساسية، وهو ما سيدفع الى زيادة التشجيع على تحفيز الإنتاج الغذائي وشبه الغذائي والزراعي وخاصة في المملكة العربية السعودية وعمان والامارات والكويت.

وتتمتع منطقة دول مجلس التعاون الخليجي بتاريخ طويل كمركز تجاري نظرًا لوفرة الموارد الطبيعية الرئيسية في المقابل تعاني من نقص شديد في موارد أخرى زراعية ومائية. وفي حين تمتلك دول الخليج حاليًا فوائض مالية قوية لكن هناك خطر من تآكلها، حيث يجتذب عدد السكان المتزايد بسرعة المزيد من الواردات بينما يستهلك أيضًا المزيد من الصادرات الرئيسية للمنطقة (موارد الطاقة) محليًا.

ومن المتوقع أن دول الخليج ستحتاج إلى التركيز بشكل مكثف أكثر على الحفاظ على إمداداتها الشحيحة من المياه، حيث أن تزايد عدد السكان والاستخدام المهدر للمياه يؤدي إلى زيادة الضغط على الإمدادات. ومع ذلك، فإن نقص المياه يخلق فرصًا لتطوير تقنيات وصناعات جديدة لإنتاج المياه، بما في ذلك تقنيات تحلية مياه جديدة وأكثر كفاءة في استخدام الطاقة.

وعلى الرغم من أن اقتصادات دول مجلس التعاون الخليجي ستظل مستهلكة بشكل كبير للطاقة، إلا أن لديها مجالًا واسعًا لجعل استخدام الطاقة أكثر كفاءة، سواء من خلال تغيير سلوك المستهلك، وإصلاح أو من خلال تقديم أفكار جديدة تتعلق سواء تصميمات البناء أو بجعل وسائل النقل أكثر اقتصادية في استهلاك الطاقة[9].

كما أن اعتماد دول مجلس التعاون الخليجي على المواد الغذائية المستوردة قد يرتفع مستقبلا ما يستدعي أساليب جديدة لتوفير الأمن الغذائي. وفي حين تركز الاستراتيجية الحالية في هذا المجال على شراء الأراضي الزراعية في الخارج أو تأجيرها على المدى الطويل، ولا سيما في أفريقيا، الا أن نسبة المخاطرة في مثل هذا التوجه عالية، وقد يكون الحل الأفضل في اقامة شراكات بين البلدان المنتجة والمستوردة للغذاء[10] على أساس ربحية مشتركة. وقد تبرر الطفرة السكانية السريعة الزيادة المرتقبة لواردات الغذاء لدول الخليج.

وقد تجاوز عدد سكان الخليج عتبة 50 مليون ليقترب من أكثر من 51 مليون نسمة، مع زيادة بأكثر من 30 في المئة طيلة العقد الماضي. وقد شهدت منطقة الخليج ضغطًا متزايدًا على إمداداتها من الكهرباء والغذاء والمياه. ومثل هذا النمو الديمغرافي السكاني السريع في المنطقة يشكل أبرز التحديات المستقبلية للحكومات الخليجية حيث من المرجح أن يؤثر بشكل كبير على ازدهارها ونوعية حياتها في العقود المقبلة[11]. ومثل هذه التحديات معروفة جيدًا لحكومات المنطقة، والتي شرعت منذ سنوات بالفعل في اتخاذ الخطوات اللازمة لكن تداعيات الجائحة قد تجبرها على تسريع وتيرة هذه الخطوات. حيث أنه لا يزال هناك الكثير الذي يتعين القيام به.

تأثر القطاع المالي والسياحي

قطاع الطيران والخدمات السياحية والفندقية ووكالات الأسفار في دول الخليج ستواجه بطء وتيرة تعافيها من تداعيات انتشار فيروس كورونا، الا أن ذلك لا ينفي احتمالات فرص واعدة العام المقبل لعودة حركة السفر والسياحة بوتيرة سريعة، وخاصة سياحة الأعمال والسياحة الدينية.

أما القطاع المالي في دول الخليج فيتمتع بمتانة وملائة مالية كبيرة وخبرة في التعامل مع الأزمات وخاصة تداعيات ركود عالمي على غرار الركود الاقتصادي العالمي في 2008 بسبب الأزمة الاقتصادية العالمية والتي دفعت دول الخليج على سبيل المثال الى اجراء إصلاحات هيكلية لتأهيل وتعزيز متانة القطاع المصرفي، الا أنه من المتوقع أن يكون هناك تشدد في الإقراض الاستهلاكي أو الاستثماري على المدى القريب حتى تتبين في الأفق فرضيات عدم تجدد مخاطر عودة موجة أخرى من الجائحة الخريف المقبل ودخول العالم في ركود أكبر.

ومع استمرار اعتماد الاقتصادات في المنطقة بشكل كبير على عائدات النفط، سيضطر القطاع المصرفي الخليجي إلى إدارة التحديات الاقتصادية المزدوجة للوباء وانهيار أسعار النفط. ومن المتوقع أن تنخفض الأرباح المصرفية في المنطقة بشكل كبير هذا العام، مما يثير تساؤلات حول استراتيجيات الاستثمار ونماذج التشغيل لبعض المؤسسات[12].

كما هناك قلق حول احتمال تضخم قيمة بعض العملات الخليجية إذا استمر الاغلاق الى نهاية العام مدفوعاً بالخوف من تجدد موجة الوباء في الخريف أو الشتاء المقبل في ظل عدم اكتشاف مصل نهائي وفعّال لفيروس كورونا المستجد القاتل. وقد يُبرر تضخم العملات بتقلص تدفق العملة الصعبة جراء تراجع الصادرات الخليجية خاصة النفطية في مقابل زيادة حاجتها للواردات فضلاً عن تراجع مردود الاستثمار الأجنبي.

اندماجات متوقعة وموجة تغيرات للقياديين في القطاع العام والخاص

موجة من تسريح الموظفين أو تغيير لقيادات بعض المؤسسات بدأت تلوح في الأفق في أسواق العالم بما فيها أسواق الخليج نظرا لتبعات الركود الذي خلفته جائحة كورونا والتي أصابت قطاعاً واسعاً من الشركات الحكومية والخاصة بشلل جزئي أو شامل. وهذه التوقعات ترتكز على نموذج ادارة الأزمات الذي اتبعته حكومات وشركات كثيرة عقب الأزمة المالية العالمية في 2008 والتي تعتبر ارتداداتها أخف من تداعيات جائحة كورونا على الاقتصاد العالمي.

ولتفادي مصير التعثر أو الإفلاس، قد تزيد نسبة الضغوط على صانعي القرار والمديرين والقياديين في المؤسسات لإدارة الأزمة، ومن المرجح ضمن الشركات الكبرى والمتوسطة أن يزيد التدقيق على جودة الإدارة وكفاءة القياديين، ومن لم يستطع بينهم تقديم إضافة ملموسة في انقاذ مؤسسته، فقد يواجهون مصير استبدالهم بقياديين آخرين أكثر قدرة على إدارة الأزمات، الى ذلك قد تزيد نسبة الاندماجات بين المؤسسات خاصة تلك المتعثرة او المهددة بالإفلاس من اجل تحسين الملائة المالية وامتلاك القدرة على استيعاب الأزمة وتحسين النمو في المستقبل وهو ما قد يترتب عنه أيضاً إمكانية حركة تغيير أو تدوير لأعضاء الإدارة. وهذا ما حصل فعلاً عقب الأزمة العالمية في 2008.

تغير محتمل لثقافة العمل والاستهلاك لدى الخليجيين

تتضح حاجة ملحة لتغيير ثقافة المواطن الخليجي خاصة في علاقته مع العمل أو الاستهلاك. اذ بات من المهم ملاحظة تغيرات متسارعة أكثر من أي وقت مضى خاصة فيما يتعلق بزيادة اختلالات التوازنات الاستراتيجية للتنمية في الدول الخليجية التي تسعى بدورها الى أن تصبح في مراحل مستقبلية مراكز إقليمية تجارية ومالية تمثل بديلاً استراتيجياً بعيد المدى يعوضها الاعتماد المفرط على منظومة اقتصاديات النفط.

وقد أثرت الاقتصاديات النفطية في ثقافة الفرد الخليجي لأكثر من نصف قرن، وجعلت جزء كبيرا من المواطنين يعتمدون على اقتصاد الدولة أو (الاقتصاد الريعي) بدل الاقبال على مبادرات المشاريع والاستثمار الخاص وهو ما ترك جزء كبيرا من النسيج الاقتصادي هشاً. وبالتالي فان تغير نموذج الاقتصادات الخليجية بات خياراً اضطرارياً لمواكبة التغيرات المستقبلية المتسارعة، وهو ما سيُحدث بشكل مباشر وغير مباشر وتدريجياً تغييرا في مفهوم دور الفرد في المجتمع ويجعله فاعلاً أكثر وشريكاً أكبر في بناء اقتصاديات أجيال المستقبل.

وقد تبادر الحكومات بتدابير إصلاحية على غرار فرض رسوم أو المضي في تخصيص مؤسسات حكومية لتقليص دور الدولة في الاقتصاد، وتقنين عملية التوظيف والترقيات والامتيازات، وهو ما قد يجد معارضة شعبية ورفض من المنظمات والنقابات العمالية، ومثل هذا الرفض الذي قد يظهر في بعض الدول الخليجية قد يربك عمل الحكومات المقبلة إذا بادرت بالإصلاحات التي قد تصطدم خاصة في دول مثل الكويت بحراك اجتماعي ونقابي قوي في حال تمسكت الحكومة بالمضي في الخصخصة وتقليص الامتيازات أو فرض حزم ضريبية أكبر وذلك استجابة للضرورة التي تحتمها المرحلة المقبلة، علماً أن الكويت سبق أن عرفت حراكاً نقابياً رافضاً لبعض الإجراءات الرامية خاصة لدفع عملية الخصخصة أو تقليص الامتيازات الوظيفية.

Getty

تقلص محتمل لبعض الامتيازات واحتمالات الضريبة على الدخل

الضريبة على الدخل قد يكون خياراً اضطرارياً لحكومات الخليج. الا أن زيادة التقشف وتوسيع دائرة الضريبة والرسوم على السلع وصولاً الى خيار الضريبة على الدخل، قد ينتج في المقابل مخاطر تفاعلات اجتماعية وسياسية متفاوتة. لكن قد لا تجد الحكومات بُداً في التردد في المضي قدماً في مسار تطبيق مثل هذا الاجراء التقشفي تدريجياً.

وقد يترتب عن تقلص إيرادات الحكومات الخليجية جراء الركود تقشف متفاوت في منح امتيازات اجتماعية أو وظيفية للموطنين كالترقيات والبدلات على المدى القريب والمتوسط، وهو ما قد يقلص هامش دخل الأسر الخليجية التي قد تتضرر أيضاً من توقع تراجع نمو المشاريع متناهية الصغر أو الصغرى والمتوسطة والتي تعتبر غالبيتها مؤسسات عائلية تساهم في تحسين دخل الأفراد والأسر. وقد يفضي هذا التراجع في الدخل الى زيادة تقشف الخليجيين في الانفاق غير الضروري وخاصة الاستهلاكي. ومن غير المستبعد أن يترتب عن ذلك إمكانية الاستغناء تدريجياً عن جزء من العمالة المنزلية والاكتفاء بأقل عدد ممكن، وهو ما قد يزيد من نسبة بطالة الوافدين ونمو ظاهرة تكدس العمالة الهامشية وغير القانونية في أسواق العمل الخليجية في الفترة المقبلة.

الى ذلك من المتوقع أن نسبة من الخليجيين في الفترة المقبلة خاصة إذا امتد الركود الذي سيخلفه الوباء قد تضطر للبحث عن فرصة وظيفة ثانية لدعم دخلها وتحمل أعباء المحافظة على نفس نسق الحياة المعتاد الذي يميل الى الرفاهية، وهذا الاحتمال قد يقلص من فرص العمل الوقتية المتاحة سابقاً للعمالة الوافدة في ظل توقع زيادة اقبال الخليجيين عليها وخاصة ذات الخصائص الإدارية أو الخدماتية.

لكن تجدر الإشارة الى أن الملاءة المالية الجيدة للحكومات الخليجية قد لا تدفعها الى فرض تقشف كبير على الأجور والخدمات الأساسية المقدمة للمواطنين منعاً لحدوث ارتدادات سلبية على علاقة الحكومات بالشعب على المدى القريب. الا أن الحكومات الخليجية قد تجد نفسها مضطرة لحد أدنى من الإصلاحات الضرورية والتي قد لا تكون شعبية، حيث قد تعتمد على فرضها تدريجياً على المدى المتوسط.

وتتفاوت الحاجة الملحة لهذه الإصلاحات لزيادة تعبئة موارد الدولة حسب حالة العجز التي تعاني منها كل دولة خليجية وحسب نمو اقتصادها غير النفطي والتعداد السكاني، حيث قد تكون بعض الدول الخليجية مضطرة للوصول الى تطبيق ضريبة على الدخل وزيادة الرسوم على الخدمات المقدمة للمواطن على المدى المتوسط والبعيد.

لكن التقشف الذي تدرسه الحكومات الخليجية في مرحلة ما بعد الوباء قد يكون المضي أكثر في تقنين الامتيازات المقدمة للأفراد أو للهيئات وخاصة بند البدلات والمكافآت وامتيازات مجانية أخرى وإمكانية ربطها مستقبلاً بشروط واسنادها لمستحقيها حسب منظومة كل دولة ونسبة العجز فيها ونسبة التضخم في الانفاق والهدر. وسينعكس تقليص الانفاق غير الضروري وتأجيل بعض المشاريع سلباً على شركات الاستثمار وبالتالي ستكون له ارتدادات سلبية على سوق العمل واحتمال تقلص الطلب على التوظيف.

وقد تكون زيادة الرسوم والضرائب على بعض الخدمات والقطاعات والسلع عاملاً منفراً لجزء من العمالة الوافدة خاصة الهامشية وغير المتخصصة ودافعاً لمغادرة بعضها أسواق العمل الخليجية طواعية بدافع عدم تحمل زيادة تكلفة العيش مستقبلاً، وهو ما قد يساعد على انتقاء العمالة وتقليص الجزء الهامشي والذي لا يحمل قيمة مضافة منها.

تقشف خليجي يمنع توسع دائرة الفقر خاصة بين محدودي الدخل

حسب دراسة معالم توجهات الحكومات الخليجية لإدارة أزمة تداعيات الجائحة، فيتضح وان كان بشكل متباين بين دول الخليج، مسار مشترك لدعم الطبقات المتوسطة ومحدودة الدخل من المواطنين، وذلك باستمرار سياسات الدعم الحكومي لأسعار الخدمات والسلع الاستهلاكية الأساسية التي تساعد على استقرار الأسعار ومنع انهيار القدرة الشرائية لمختلف الشرائح الاجتماعية وخاصة أصحاب الدخل المحدود. وتعتبر الدول الخليجية من أكثر دول العالم سخاء في مختلف خدمات الدعم والمساعدات المقدمة للمواطنين، وهو ما يجعل الخليجيين بعيدين على المدى المتوسط من شبح الوقوع في دائرة الفقر المدقع مقارنة بنظرائهم في بعض الدول العربية.

لكن هذا لا يمنع من وجود تحديات مقلقة كزيادة اقتراب نسبة من سكان الخليج من دائرة الفقر وخاصة من فئة محدودي الدخل (مواطنون ووافدون) في حال تعمق الاختلالات الاقتصادية وطول فترات تطبيق سياسات التقشف وتقلص فرص العمل ومحدودية تحقيق الثروات جراء تداعيات الجائحة.

وتبقى المخاوف قائمة من زيادة معاناة فئات في المجتمعات الخليجية من تقلص دخل الأسر بصفة خاصة، وهذا ما ينطبق بشكل أساسي ليس على المواطنين الخليجيين بالدرجة الأولى بقدر ما ينطبق على فئات أخرى من غير المواطنين والمقيمين بشكل مستمر في هذه الدول.

الرهان على الشباب والابتكار والرقمنة

من أهم مميزات ثروات دول الخليج تبرز ثروتها الطاقية وملائتها المالية وقبل كل شيء ثروتها البشرية التي تزخر بنسبة كبيرة من الشباب المتعلم. ويمثل الشباب الرهان الوحيد والدرع الواقي من الصدمات المستقبلية التي قد تواجهها الحكومات الخليجية. وبذلك باتت أولوية الحكومات قد تنحاز أكثر الى زيادة الاستثمار في التنمية البشرية وتعزيز قدراتها وتأهيلها لقيادة مرحلة التحول الكبرى نحو اقتصادات أقل تبعية للنفط على المدى المتوسط، وذلك من خلال دعم رفع جودة مستوى التعليم والتدريب وتكثيف المبادرات الشبابية في مجال الأعمال المبتكرة وزيادة الاستثمار في مشروعات غير تقليدية خاصة في مجالات الطاقات المتجددة والعلوم والتجارة. ومن المرجح أنه نجاح الحكومات الخليجية في رفع كفاءة القدرات البشرية قد يمكنها سريعاً من خلق مصادر ثروة جديدة بعيداً عن النفط الذي تتآكل قيمته تدريجياً على المدى الطويل.

ويبدو أن تداعيات الوباء التي ستقلص من الإيرادات والموارد ستدفع حتماً الى البحث عن حلول جديدة وقد تكون أغلبها ترمي لتشجيع الاقتصاد الرقمي والخدمات عن بعد. وفي ظل هذا المجال قد تزيد وتيرة تنافس المبادرين الشباب صفة خاصة لإطلاق مشاريع جديدة تتأقلم مع طبيعة المرحلة المقبلة التي سبقي فيها التباد الاجتماعي المسيطر خلال السنوات المقبلة.

تقلص الاعتماد على النفط

لقد تسببت جائحة فيروس كورونا المستجدّ بتحدٍّ مزدوج لدول مجلس التعاون الخليجي. فعلى غرار البلدان الأخرى، تمحورت أولويات دول الخليج حول التعامل على المدى القريب مع تداعيات الجائحة على الصحّة العامة والاقتصاد، لكن تبرز أيضاً الحاجة لتعاملها مع التحديات طويلة الأمد التي تسبّب بها الانخفاض الحاد للعائدات من النفط والغاز الطبيعي التي يعتمد عليها اقتصاد هذه الدول. ومن المرجح أن يهوي متوسّط سعر النفط من 64 دولاراً في 2019 إلى أقل من 40 دولارا للبرميل الى نهاية هذا العام. وهذا السعر هو أقل من سعر التعادل المالي للنفط بحسب تقديرات صندوق النقد الدولي قبل الجائحة، وهو السعر الذي يمكن الحكومات الخليجية إحداث توازن في موازناتها[13]. ومن المتوقع ان تصحيح حركة أسعار النفط قد يتأخر الى 2022 في حال عودة المخاوف من موجة ثانية للفيروس وتقييد حركة التنقل والنشاط الاقتصادي وحركة التجارة.

وقد حاولت دول الخليج منذ 2013 حين قفز سعر النفط الى أعلى مستوياته القيام بتخفيف اعتمادها على عائدات النفط والغاز الطبيعي عبر تقليص نفقاتها العامة وتنويع مصادر الدخل. وبفضل ذلك تراجع سعر التعادل المالي للنفط في مجمل دول مجلس التعاون الخليجي، الا ان متوسط سعر التعادل الحالي الذي يستقر عند نحو 65 دولارا للبرميل يبقى بعيدا عن متوسط سعر البرميل في المدى القريب والذي قد يكون عند سقف 40 دولارا وهو ما سيزيد نسبة العجز في ميزانيات الحكومات الخليجية. وفيما تشير التوقّعات إلى أنّ أسعار النفط ستبقى منخفضة، حتّى نهاية العام 2021، ينبغي على دول مجلس التعاون الخليجي مضاعفة جهودها في مجال ضبط أوضاع المالية العامة. بيد أنّ هذا وحده لا يكفي، بل ينبغي عليها أيضاً تحقيق تقدّم ملموس على صعيدَين أغفلتهما في السابق، ألا وهما تنويع اقتصاداتها وتحسين تكاملها الاقتصادي الإقليمي[14].

وتشهد سوق النفط في العالم تغييرا جذرياً، حيث تستخدم عدة دول تقنيات جديدة للتنقيب والإنتاج تهدف لزيادة المعروض من النفط من المصادر القديمة والجديدة، في الوقت نفسه تؤدي المخاوف المتزايدة بشأن الاختلالات البيئية وانعكاساتها على صحة الانسان إلى زيادة تسارع وتيرة خروج العالم تدريجيًا من الاعتماد على الطاقة الأحفورية كالنفط. وهذا يمثل تحديًا كبيرًا للدول المصدرة للنفط، بما في ذلك دول مجلس التعاون الخليجي التي توفر خمس إنتاج العالم من النفط.

ولقد أدركت دول مجلس التعاون الخليجي الحاجة إلى تقليص اعتمادها المفرط على النفط، وتعمل جميعها بتنفيذ إصلاحات لتنويع اقتصاداتها وكذلك الإيرادات المالية والخارجية. ومع ذلك، حيث من المتوقع أن يبلغ الطلب العالمي على النفط ذروته في العقدين المقبلين، إلا أن تنويع الإيرادات المالية بات يمثل ضرورة أكبر وأكثر إلحاحًا مما تتضمنه الخطط المستقبلية لدول مجلس التعاون الخليجي.

مخاطر زيادة التبعية للخارج تُعزز سياسات تحقيق الاكتفاء الذاتي

من المحتمل أن تبقى دول الخليج منكشفة أكثر على الأسواق الخارجية وقد تزيد تبعيتها أكبر في مجالات أهمها الأمن الغذائي والمائي والاقتصادي المهدد أكثر مستقبلاً. هذه التبعية قدد تتعمق إذا بقيت الاختلالات كما عليها. حيث أن زيادة نسبة سكان دول الخليج قد تزيد في العقد المقبل ضغوطاً كبيرة على زيادة التوريد الاستهلاكي.

ارتباط الأمن الاقتصادي والغذائي والصحي بالخارج، وارتباط جودة التعليم بالخارج، ونقص البنى التحتية الصحية الكافية، وقد تبدو مثل هذه القضايا قديمة في طرحها لكن التوصل لحلول لها اليوم أصبح ضرورياً اليوم أكثر من أي وقت مضى، حيث بات على دول الخليج الانتقال من مرحلة التخطيط الى التنفيذ الجدي لبرامج تعزيز الاكتفاء الذاتي في قطاعات مختلفة وحسم النقائص والاختلالات.

لا يمكن لحُزم الدعم الاقتصادي السخية والإعفاءات من الرسوم الحكومية أن تستمر إلى مالا نهاية. في الواقع، تعمل حكومات دول الخليج العربية على خفض الإنفاق بشكل متزامن فيما بينها[15]. وقد تكون دول الخليج أكثر قلقا إزاء تداعيات الوباء، ويعود ذلك جزئياً إلى الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية، حيث تعتمد اقتصادات دول الخليج (الكويت وقطر والمملكة العربية السعودية والبحرين والإمارات العربية المتحدة وسلطنة عمان) في الغالب على النفط أو الغاز، مما يجعلها تعتمد على العالم الخارجي بطرق عديدة.

تأخر وتيرة بعض المشروعات وتأثير ذلك على الأحداث الكبرى المنظمة في دول الخليج

تلعب عوامل مختلفة دورًا محورياً في تأثر منطقة الخليج بالوباء على المدى المتوسط أكثر من المناطق الأخرى. وتتمثل هذه العوامل في: أولاً: الاعتماد المفرط على تجارة غير متنوعة وانكشافها على الركود الاقتصادي العالمي، ثانياً: حجم العمال الأجانب في المنطقة واختلالات التركيبة السكانية، ثالثاً: حركة التجارة والاستثمار، وأخيرًا إقامة دول الخليج لأحداث ضخمة على غرار كأس العالم في قطر ومعرض “اكسبو” في الامارات[16]. وعلى الرغم من ذلك فان وتيرة تقدم الأشغال في الانشاءات والمشاريع المرتبطة بكأس العالم في الدوحة بعد عامين قد تواجه بعض التعثرات نتيجة توقف وقتي لعدد من المشاريع بسبب اتساع وتيرة انتشار فيروس كورنا في قطر والذي أجبر بعض الشركات على فرض التباعد الجسدي وتقليص نسبة الكثافة العمالية استجابة للمعاير الدولية التي أوصت بها منظمة الصحة العالمية.

وباستثناء المشاريع المرتبطة بهذين الحدثين والمرجح استكمالها ولو بوتيرة متباينة، تبقى مشاريع أخرى في عدد من الدول الخليجية مهددة بنقص التمويل بسبب تغيرات مرجحة لأولويات مخصصات الميزانيات الحكومات والمؤسسات الخاصة.

ومن المتوقع أن تؤثر تخطط التقشف على تباطء وتيرة تنفيذ المشاريع وتأخر انجاز بعضها في دول مجلس التعاون خاصة المشاريع العملاقة او التي ماتزال في المراحل الأولى وذلك بسبب نقص محتمل في التمويل على الأقل على المدى القريب الى أن تتضح حركة أسعار النفط وحقيقة احتمال عودة موجة ثانية من الوباء في الخريف المقبل كما حذرت من ذلك منظمة الصحة العالمية.

وحسب مسح أجري بين شركات مختارة في دول مجلس التعاون الخليجي في مارس 2020، ذكر 64 بالمئة من المستطلع آرائهم من هذه الشركات أن فيروس كورونا قد أثر على أعمالهم من خلال التسبب في صعوبة التنقل والسفر في نطاق التجارة والأعمال[17].

كما تجدر أهمية تحرك دول الخليج للاستمرار في زيادة إنتاج النفط على المدى المتوسط لجلب لها المزيد من الإيرادات، حيث وان كانت مؤشرات الأسعار ومتوسط العرض والطلب ستبقى متقلبة خلال العقد المقبل الا أن الطلب على النفط سيبقى قوياً.

الكويت بين أسرع المتعافين الخليجيين المتوقعين

نظرا للخطط الاستراتيجية والاستباقية لتعزيز الأمن الصحي والغذائي ودعم الاقتصاد الوطني، من المرجح أن تكون الكويت بين أوائل دول الخليج والدول العربية التي ستتخطى مرحلة ما بعد كورونا بسلام دون الوقوع في بحر من المشاكل التي ستواجهها دول أخرى خاصة على المستوى الاجتماعي والاقتصادي وعلى مستوى استشراف نوعية وموارد حياة أجيال المستقبل.

ومن المرجح أن الملاءة المالية الكويتية ستتسمح لها باستيعاب الصدمة في ميزانياتها على المدى القصير خلال السنوات المقبلة لكن ذلك يعتمد على التخطيط الرشيد وحسن الإدارة وسهولة اتخاذ القرار وتقليص البيروقراطية وتخفيف خلل التركيبة السكانية وتخمة سوق العمل باليد العاملة غير الماهرة والهامشية. على صعيد آخر استجابت على سبيل المثال الإمارات ببعض الإجراءات المحدودة لحماية السيولة في القطاع المصرفي لكن سيتعين على الحكومة أن تفعل المزيد خاصة على مستوى إيجاد حلول للشركات الصغيرة والمتوسطة لمواصلة نشاطها دون تعثرات مالية من خلال إنقاذ هذه الشركات وتمكينها من استحقاقاتها.

وعلى مستوى الحفاظ على قيمة واستقرار العملات اتبعت كل من المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، باعتبار عملتيهما مربوطتان بالدولار، قرار بنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي بخفض أسعار الفائدة بمقدار 50 نقطة أساس. أما الكويت، التي ترتبط عملتها بسلة من العملات، فخفضت أسعار الفائدة بمقدار 25 نقطة أساس[18].

زيادة التداين والاقتراض المؤسسي والفردي

يجدر التحذير من أن سياسة الدعم النقدي السريع وضخ أموال في الاقتصاد أو عبر مسالك دعم الأفراد لتجاوز تداعيات الجائحة ليست كافية لتحفيز النمو. اذ من المتوقع أن يؤثر الانخفاض الحاد الأخير في أسعار النفط على الاحتياطيات المالية المستقبلية. حيث سيتحول رصيد الحساب الجاري التراكمي لمصدري النفط التسعة في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا من فائض قدره 64 مليار دولار في عام 2019 إلى عجز قدره 104 مليار دولار في عام 2020، وفقًا لمعهد التمويل الدولي[19]، بافتراض أن متوسط ​​النفط يبلغ 44 دولارًا للبرميل.

وقد يجبر ضعف النمو غير النفطي بعض الاقتصادات الخليجية على زيادة محدودة للإنفاق المالي خاصة على المشاريع والاستثمارات المحلية بسبب انخفاض عائدات المحروقات وارتفاع الدين العام، حيث أن زيادة كبيرة في الإنفاق ستؤدي إلى تفاقم العجز المالي. وعلى الرغم من التقلبات في الأسواق والتكلفة المرتفعة المحتملة للاقتراض، فان دول الخليج قد تلجأ إلى الأسواق الدولية فضلاً عن استخدام احتياطاتها النقدية. وبذلك سيكون التوجه نحو خيار اصدار سندات سيادية مهم جدا في المرحلة المقبلة، حيث تم رصد اتساع هامش الربح على السندات الخليجية. ومن المرجح أن يكون هناك رغبة لدى المستثمرين للحصول على سندات خليجية عالية الجودة[20]. وعلى صعيد آخر، من المرجح أن تتباطأ تدفقات الاستثمار الأجنبي إلى دول الخليج وهو ما قد يحفز الحكومات على زيادة تسهيل وتحفيز الاستثمار المحلي الداخلي وتعزيز الثقة في القطاع الخاص.

 

المصدر: مركز الشرق الأوسط للاستشارات السياسية والاستراتيجية (MenaCC)

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى