أهم الأخبارالأسبوعية

و الحياةُ قوافٍ.. بقلم خولة سامي سليقة

 

تطول أعمارنا لتتسع حقيبة الذكريات أكثر، نغذّ السّير، نحثّ الخطى فإذا بنا أمام النسيان! لا ندري أيّ قطع  المرآة سيسقط أولاً، و أيها سيصمد حتى النهاية؟

أستعيد معها سنوات أنفقتها في وطني بين سعادة و ألم، تطفو على السطح وجوه و تستقر في الأعماق وجوه. عاودتني ذكريات الجامعة خلال الأشهر السابقة، و أنا على مقاعد الدراسة في أكاديمية البابطين للشعر العربي، فالمحيطون بك ليسوا تلامذة بحقّ، بل أساتذة لا يُسكت جوعهم إلى المعرفة ما اكتسبوه خلال رحلاتهم الطويلة في طلب العلم، أفدت منهم، تعلمت من توقهم إلى كل جديد، أحببت شغفهم يتجشمون عناء المجيء إلى المحاضرات، في وقت هو ملك لأجسادهم ترتاح فيه من وعثاء الجري مع عقارب النهار.

ممن أدين لهم بالفضل جراء جهودهم المخلصة الدكتور عبد الله غليس، باحثٌ كويتيّ نفخر به، و رجلٌ  أكاديميّ مهتمّ بالدراسة و التنقيب في الكتب، يقدم لك المعلومة جاهزة موجزة موثّقةً بعد دأب، متخيراً  أفضل و أيسر السّبل لإيصالها إليك، حتى غدا مقرّر العروض و علم القافية الأكثر متعة لديّ و لدى  الكثيرين، و علم العروض ليس علما من العلوم الجديدة إلا أنه يصعب على الكثيرين إتقانه، و لعلّ ذلك عائد إلى عدم وجوده في المناهج المدرسية، فيدرسه المتخصصون ضمن دراستهم الجامعية، يميل البعض

إليه و آخرون ينفرون من مصطلحاته الكثيرة، و من الزحافات و العلل و الأسماء الكثيرة، يضيع الجمال  الفني و تبقى المشقة.

لكن الدكتور غليس عرف كيف يدخل إلى قلوب الدارسين محبة و تقبّل هذا العلم، بصبره على استفساراتهم  التي لا تنتهي، مقاطعتهم له كلما أشكل عليهم فهم جزئية، يظل يعيد و يشرح و يتوسّع، يعطي أمثلة مختلفة،

يوضّح، حتى تنفرج أسارير المتلقي دلالة الفهم أو وضوح الصّورة. أضحك كلما ذكرت ذلك اليوم، حين بدأ حديثه عن الكتابة العروضية، و معروف بأنها تختلف عن الكتابة الإملائية التي تقوم وفق قواعد الإملاء المعروفة، حيث تقوم الكتابة العروضية على مبدأ اللفظ لا مبدأ الخط، أي أن أنك تكتب كل ما ينطق به و لو  لم يكن مكتوباً، و لا تكتب  كل ما لا ينطق و لو كان مكتوبًا إملائياً، امتقعت وجوه البعض خوفاً أو ذهولاً ممن لم يدرسوا هذا العلم قطّ، كما تاه البعض و شعروا بالعجز، بل أعلن آخرون استسلامهم، لولا  سعة صدر د. غليس و إصراره على أن يغيّر نظرة النافرين من العروض إلى نظرة تفاؤل و محبة و قبول.

أذكر في معرض الحديث عن عدم معرفة معظم الناس بهذا العلم، جهل بعض معلمي اللغة العربية و بعض  الشعراء الذين يكتبون الشعر بدافع الفطرة، لا ننكرُ أن قسماً ينجح بسلامة فطرته بتخطي الأخطاء التي يقع فيها غير العارف، لكن لا شيء فوق العلم و المعرفة.  في هذا كتب الأديب طه حسين إلى ميّ : “لن تستطيعي أن تقولي إنَّ العَـروض العربيَّ فنٌّ حديث أو ثقافة جديدة عبرت إلينا البحر؛ إنَّما هو فنٌّ عربيٌّ خالص قديم. و مع ذلك فالمثقفون منَّا يجهلونه، و أدباؤنا يجهلونه، و شعراؤنا يجهلونه، لا أكاد أستثني منهم  إلَّا نفرًا يُحصون”.

أميز ما في عمل د. غليس أنه كان يطلعنا على كل جديد في بحثه، إذ هو في طور تأليف كتاب عن علم  العروض و القافية يكون سهل التناول للدارسين، يضيف إليه نماذج و جداول في علم القافية تجعلها يسيرة الهضم، قوية الثبات في الأفهام، و كنت كلما تحدّث د. غليس عن عناصر القافية أسقطها على مجموع  الأشياء التي تشكّل حيواتنا، في ائتلاف بعضها و استحالة اجتماع بعضها الآخر في الوقت نفسه، حتى لكأن أنواعها تشبه أنماط الحياة: مقيدة مجردة، موصولة، مؤسسة مقيدة و .. و غير ذلك.

علم متّسع الأطراف لا يكفي أن تعي تفاصيله لتجيده، إنما يحتاج أيضاً دربة و مراناً لتكتسب نظرة مختلفة نحو الشعر، تقرأه بعيون أكثر جدّة و جمالاً. فكل الشكر للدكتور عبد الله غليس على ما قدّم و أنجز، و الشكر الكبير للأستاذ مناف عوض الكفري مدير أكاديمية الشعر التابعة لمؤسسة عبد العزيز سعود البابطين، و لكل بادرة طيبة تعيد إلى الشعر بهجته و رونقه.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى